بجانب تلك المحاولة التي قام بها شوقي، ظهرت محاولة أخرى بعد ذلك ببضع سنوات كانت أبعد نجاحا وأعظم أثراً وهي التجاء الكتاب إلى ذلك الضرب المعروف بالمقامات، وهي تعد في نظر من يدرسون الأدب العربي في العصور الوسطى أقرب ضروب الكتابة في ذلك الوقت إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد ظلت المقامة تستعمل في شكلها التقليدي حتى أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الأخص على يد ناصيف اليازجي وعبد الله باشا فكري، ولكنها كانت في يدي هذين الرجلين وغيرهما من كتاب مدرستهما مقصورة على الموضوعات القديمة ولم يكن لها بحياة عصرهم غير ارتباط قليل.
ولكن ظهر بجانب هذه المقامات نوع آخر لجأ إليه الكتاب فيما طرقوه من الموضوعات وعلى الأخص في النقد الاجتماعي؛ وأقبل عليه عدد من الكتاب المصريين فأخرجوا طائفة من الآثار الأدبية؛ كانت إحدى المظاهر الخاصة التي امتاز بها الإنتاج الأدبي في السنوات العشر التي سبقت عام ١٩١٤.
ويعد (حديث عيسى ابن هشام) لمحمد إبراهيم المويلحي (١٨٥٨ - ١٩٣٠) أقدم وأحسن تلك المجموعة الجديدة، بل أن هذا الكتاب في تصوراته وطريقته ليكاد يصل إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد لجأ المويلحي أيضاً في ذلك الكتاب إلى الخرافيات، لأن الخيط الذي يربط أجزاءه، هو تجارب أحد الباشوات الذين عاشوا في عهد محمد علي، وقد بعث هذا الباشا من مرقده فهاله ما وجد من الظروف الاجتماعية الغريبة التي لم يألفها في القاهرة التي استحالت إلى مدينة أوربية. وبهذه الوسيلة تسنى للمؤلف أن ينتقد في حوار ممتع حالة عصره، وأن يقارن ذلك بالماضي مظهرا ما في الحاضر من مساويء، أهمها ولع أهله بتقليد الأوربيين تقليدا مرذولا. على أن هذا الكتاب، كما لاحظ محمود تيمور، ينقصه الخواص الجوهرية للقصة، وأعني بها الخطة البسط، ولكنه في تصوير الأشخاص قد نجح إلى درجة جديرة بالاعتبار. ولقد أضيف إلى الطبعة الأخيرة لهذا الكتاب جزء آخر سمي (بالرحلة الثانية) غيرت فيه المناظر الأولى بمناظر باريس أبان المعرض العظيم عام ٩٠٠، وبذلك تسنى للمؤلف انتقاد مساوئ التشبه بالغربيين، وأوضح معايب المدنية الغربية لدى منابعها. ومما هو جدير بالملاحظة أن الباشا لم يرجع ثانية إلى قبره، ذلك إلى مثله في الكتاب ما يحملنا على الظن بان المؤلف قد نسى الفكرة التي بدأ بها كتابه.