كما يموتون، لا تحتفل بمولدهما الدنيا ولا تضطرب لموتهما الأرض، ولا يحس بهما التاريخ، وتلفتا يفتشان عن مهنة يعيشان منها فوجدا في قلبهما الميل إلى الجندية لأنها مهنة البذل والبطولة والنبل وخوارق العادات، ولكنهما لم يجدا في أمتهما الجيش العربي، فتطوعا لخدمة الجيش الأجنبي. . . وتحركت العظمة الفطرية فيهما فكانا ضابطين نابغين، ولكنها ظلت حبيسة في سجن الوظيفة، مقيدة بقيد القانون، حتى جاء اليوم المقدور، فنقبت السجن، وحطمت القيد، وانطلقت تملأ الأرض، وتترع الزمان.
أخوان ائتلفا ولم يتعارفا، وتكلما وما كان بينهما كلام، وتواعدا وبينهما بحر العرب بعرضه، على أن يلتقيا في مصر، فجاءاها بعد ما زرعا طريقيهما إليها مفاخر للعرب وأمجاداً، وبعدما حارب هذا بشعب أعزل، وقبائل بدوية، دولتين عظيمتين: فرنسا وأسبانيا حشدتا له مائتين وخمسين ألفاً، ونازلهما فأنزل بهما الهزائم وجرعهما شراب الموت، وقارع ذلك دولتين عظيمتين: إنكلترا وفرنسا وفل جيوشهما في الشام وفلسطين والعراق. وبعدما أثبتا للدنيا أن العربي لا يستعبد ولا يهون.
لقد عاد فوزي إلى وطنه سورية على رغم فرنسا، فلما لم ير فيها مستشاراً في دائرة وكانت الدائرة هي المستشار، ولا شاهد قلعة فرنسية على رابية، ولا داراً فرنسية في شارع، ولا لوحة فرنسية على متجر، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم يبك وهو بين شقي الرحى التي تديرها يد الموت. واستقر عبد الكريم في مصر على رغم فرنسا، فلما رأى الملك العربي، والجامعة العربية، والشعب العربي، بكى فرحاً، بكى (الرجل) الذي لم تبكه خمس وعشرون سنة في منفى سحيق وضعته فيه فرنسا التي أقسمت له بشرفها أنها لن تأسره. . . فلما تمكنت منه كان وفاؤها له، على مقدار شرفها. . .
لقد شهد الرجلان مئات المعارك، وحملا مئات الجروح، ولقيا مئات الشدائد، وهاهو ذا فوزي يفتش عن ميدان جديد للجهاد، وعبد الكريم يستجم ليعود إلى النضال. . . وكذلك نكون الرجال.
لم يرض فوزي أن يكون كهؤلاء الذين جنوا على الجهاد لما تسموا كذباً بـ (المجاهدين). . . وما جاهدوا ولكن قتلوا الثورة، وفرقوا أهلها، وسرقوا أموالها، وعادوا اليوم يأكلون ويشربون، وينعمون ويتمتعون باسم الجهاد الذي لم يكونوا من أهله - فعاف المناصب