ولا مشاحة في أن هذه النظرية ارتفعت بالنقد إلى حيث أصبح مأمون الجانب من عبث الأهواء، وتقلب الميول، وألقت ضياء على هذه الدياجير التي كانت تعتور الباحث، وتتكاءد المنقب؛ بيد إنها من وجهة ثانية جادت على العبقري، ولم تحسب لهذا السر يودع في نفسه حسابا في أبحاثها، فليس الزمن، وليست قوانين الوراثة، هي كل شيء في إيجاد العبقري وتكوين رسالته. وإنما هو سر غامض مستعص حله كغيره من هذه الأسرار التي تحيط بهذا العالم الأكبر والأصغر، والتي يحاول العقل جهده إماطة اللثام عنها، ثم لا يجد غنيمة بعد الكد إلا سلامة القفول. . . وإلا فأي شيء هذا الذي يخلق الاثنين من صلب وأحد، وفي زمن بعينه، ثم تتسامى نفس أحدهما وتفتح أفكاره، فإذا هو يغذي الإنسانية بزاد المعرفة، ويتسامى بها، ويزيد في ذخيرة الخلود. وأما الثاني فيعيش خاملا مغمورا ويندس في سواد الناس. . . فقمين بنا أن نحسب لهذا حسابا في أبحاثنا. . . ثم نحسب لهذا المزاج والتركيب النفسي في الشاعر، وهو اثر من آثار هذه الهبة ألقته القوة المجهولة، في نفس الفنان وركبت أعصابه على مثال خاص، ليتلو رسالته ويهتف بلحنه على نغمة مرقومة ونحو خاص: حسابا عله لا يقل أهمية عن عوامل الزمن وقوانين الوراثة. . .
وما أحرانا ونحن نبحث بحثا مقتضبا عن الشاعر - أبي العتاهية - أن نغفل - ولو إلى حين - عوامل العصر والوراثة لنتكلم عن مزاجه، وحسبنا أن نعلم عن العصر والأصل. . . أن أبا العتاهية تحدر من أصل وضيع، ومن الموثوق انه اشتغل ببيع الفخار، ورافق المخنثين. أما الزمن فيكفينا أن نعلم انه من هذه الأزمان التي كان تنكر كل فضيلة، والتي يطلق عليها كلمة المتشائمة والتي كانت لاشك، والإغراق في المجون اظهر مميزاتها.
مزاج أبي العتاهية
وأول ما يطالعك من مزاج أبي العتاهية هذا التناقص، وهذا الاضطراب، فيما يأخذ ويدع، وفيما ينهج من سبل.
فلقد تجاذبت نفسه طرفي النقيض، وكان يرى الدنيا ويلابس الوجود على هدى نزعتين بينهما من الاختلاف ما بين النقيض ونقيضه. . . فهو آونة مندفع بتيار اللذة مستغرق بهذا المجون، الذي وصل بعصره حد الشناعة، وطورا تتقمصه أرواح الزهاد، فيلبس المسوح ويهجر اللذائذ، وتتملكه تملكا عنيفا فكرة الخوف من الموت. فإذا هذه الدنيا باطل، وإذا هو