للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

موف من الصلاح على الغاية. . . حتى ليحار فيه أهل عصره، وقد تصل بهم الحيرة إلى حد أن يحيلوا أمره إلى العبث، ويرموه بالتدجيل، والحق أن ليس في هذا عبث ولا تدجيل، وان الأمر صادر عن عقيدة خالصة طهور، وهذا التناقض قريب المرد إذا رحنا نستوضح خافيه على ضياء مزاحه، حتى لنرى أن قد تقاربت هذه المتناقضات، فإذا هي تنبع من عين واحدة. . .

فأبو العتاهية - لم يكن مستقيم المزاج وإنما هو مضطربة، وقد طغى فيه الجانب العاطفي، ولم تتح له نشأة صالحة، ولا بيئة هادئة، تخفف من حدة هذا الاضطراب، وتأخذ بزمام هذه العاطفة إلى حيث يتمكلها العقل، ويفرض عليها سلطانه، وقد بلغ من طغيان هذه العاطفة أن أصبح الشاعر عرضة لانفعالات مخيفة مستهجنة في عرف العقل، والعاطفة الصحيحة، كان يتخذ - مثلا - لباسه من قوصرتين يدخل رأسه في إحداهما. ويدخل رجليه في الأخرى، كل ذلك زهادة في الدنيا وكرها لنعيمها، ولكن أية سخرية تتملكن إذا رأيته يلقيهما بعد حين ليتخير على المنى، ويجري مع الغواية، وليسيم سرح اللهو، على أن ينفض يده كرة أخرى من نعيم الدنيا، ويجلس حجاماً لأبناء الفقراء، يبتغي المثوبة، ويطلب الباقيات الصالحات، ثم تكون آخر أمنياته. وقدمه في حياض الموت أن يسمع غناء مخارق.

كل ذلك جائز في عرف هذا المزاج المضطرب وليس بمستغرب منه، وإنما المستغرب ان يمشي وفاق نظام معين، وخطة مقررة. . . وإذا عرفنا هذا من أبي العتاهية، فقد عرفناه ظاهرا وباطنا، وأصبح سيرنا معه مأمون الغرابة. وأصبح لهذه الخطرات المستغربة علتها الأصيلة المعروفة المنبع والمورد. وأصبحنا نرقب منه في كل أمر شذوذا وانحرافا إلى ضده. فإذا رأيناه مثلا ينعى على الناس حرصهم ويقول:

تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلَّ الحرص أعناق الرجال

ارتقبنا منه ان يكون نادرة في الحرص.

وإذا نهض ليرى الناس صغارة دنياهم وحقارة بدرهم وأموالهم.

إن مال المرء ليس له ... منه إلا حظه الحسن

كل حي عند ميتته ... حظه من ماله الكفن

عرفنا انه أعجوبة الزمن، ونادرة العصر، في البخل والتقتير. . . عاتبه صديق له على

<<  <  ج:
ص:  >  >>