ووثب الشاب من مكانه ونادى أحد (الكنستبلات) وأمره بالقبض على السائق معلناً لها وظيفته. وما كان أشد عجب هذا الشاب وعجب الركاب والسائق قبلهم جميعاً بالضرورة حين سمعوا هذا الشرطي يقول (وإنه يعني وكيل نيابة!). . . وكأنما سرت هذه الكلمة عن الناس فانبعثت ضحكاتهم على الفور عالية مجلجلة. . .
ونادى الشاب وقد بلغ حنقه غايته أحد العساكر، وكان هذا يعرفه فأسرع نحوه وحياه التحية العسكرية فأصدر إليه أمره بالقبض على (الكونستابل) بتهمة إهانة النيابة وسبقهما إلى مقر التحقيق ونجا السائق المسكين. وهكذا مصائب قوم عند قوم فوائد.
وأما الموقف الثاني فقد شهدت شاباً كذلك يثب في أول ميدان باب الخلق فيدرك الترام ويتعلق به، ثم يقف بباب الحريم لا يتزحزح ولا ينحرف، يميل طربوشه ويبرز طرف منديله فيتدلى على صدره، ويضبط ربطة عنقه ويصف شعر فوديه، ويرسل النظرات الحادة إلى داخل المكان، حتى جاء المحصل فنهبه في هدوء إلى ما لا يحمد من وقفته هذه. فقال في غضب وعنف وتحمس شديد (موش شغلك. . . أسكت)؛ ونفخ المحصل في زمارته متحمساً كذلك فوقف الترام؛ واشتدت حماسة المحصل واستغنى عن التلميح بالتصريح. وجن جنون ذلك الشاب ونزل وأمسك بذراعه وهو يقول (أتدري من تكلم. . . أنا ويكل نيابة). . . وأخذ المحصل شيء من الخوف إذ أشار هذا الشاب إلى أحد العساكر ليقبض عليه. وتدخل بعض الناس، وقبل الشاب بعد لأي شفاعتهم وترك المحصل قائلاً له في كبرياء الظافر الذي يعفو عن قدرة (أما بارد قليل الأدب، صحيح). . . وتعلق المحصل بالترام وهو يقول إذ يدق كفاً بكف (أأنا البارد القليل الأدب؟)
ولست أدري أكان (صاحبنا) كما أدعى وكيل نيابة حقاً أم أنه يهوش بذلك على النسا؟
ويأتي بعد ذلك ثالث المواقف أو ثالث الأثافي؛ فنحن في سيارة عامة في أحد شوارع القاهرة، ليس فيها إلا من هو ذاهب إلى عمل أو حريص على ميعاد. وكان في المقعد الأمام شاب كذلك تبدو عليه سيماء الهدوء والرزانة فطلب إلى السائق الوقوف بالسيارة لينزل، فقال السائق (ما فيش محطة هنا) فقال الشاب (محطة إيه؟ إسمع. نزلني)؛ ولم يسمع السائق ولم يقف؛ فصكه الشاب على صدره صكة جمع فيها كل تحمسه وأفرغ كل