وانظر إليه لتتحقق صدق هذه النظرة وهو يناجي الموت، فما كان ليقف عنده وقفة المعري يسأله ويستوحيه عن أسراره وغوامضه، وإنما هي وقفة الخائف الرعديد، تلجمه روعة الموقف وتأخذ عليه الدهشة مسارب الفكر، فإذا كل ما يهجس بخاطره ويدور بخلده، خشوع عميق، ووصف مقتضب للموت يلوذ بعده، إلى إظهار التوبة والضراعة.
كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح لبنى الدنيا من الدنيا غبوق وصبوح رحن في الوشن وأصبحهن عليهم المسوح نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح ويزيد في رخاوة هذه الأعصاب واضطرابها أن أبا العتاهية لم ينل حظا وافيا من الثقافة، وكان أيضاً ضعيف الخبرة بالدنيا لم يمر عليه من التجارب، ما يصقل هذه العاطفة المستوفزة.
ولمعترض ان يقول: كيف يكون ضعيف الخبرة، قليل التجربة من طفحت بأمثاله كتب الأدب وأسفاره. فهو قد نظم أرجوزة فحسب، أودعها مئات بل آلاف الأمثال والحكم الرائعة، وصحيح هذا، بيد أن هذه الأمثال ونحن نقلبها ونعيد تلاوتها، لا نجدها تدل على علم مستفيض وخبرة واسعة، فكلها في معنى وأحد، وان تجاوزته فإلى معان متشابهة مطروقة، فهو يرى أن الدنيا ما برح مقدورا عليها الفناء، فخير زاد للمرء التقي، أو السمعة الحسنة، ومن يقل غير هذا؟
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
هي المقادير قلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
كأن كل نعيم أنت ذائقه ... من لذة العيش يحكى لمعة الآل
وهكذا دواليك من العبر الرخيصة القريبة المتناول، والتي لا تحتاج إلى سعة في العلم ولا سمو في التفكير كالتي تجري على لسان المتنبي مثلاً: وإنما نحتاج إلى هذا اللسان الذرب، والشاعرية السمحة. ومن أولى بها من هذا الذي كان يتناول الشعر من كمه كما يقول الأصمعي، ولعل هذا هو السبب الذي يعود إليه كثرة السقط في شعره.