اتجاهاً أملاه عليه اجتهاده واتجهت وجهة أملاها الله عليّ، وجاء موعد سفر الوفد السوري في اليوم التالي فرافقته إلى المطار وبقيت بمصر أنتظر الخروج من وقائع الدهر، فإذا بالأقدار تدفعني دفعاً إلى غاية لا أعلمها لأن صروح الحياة الاستقلالية اندكت في لبنان، وإذا أنا بين قرارين: الإقدام والسفر، أو النكوص والبقاء، وفي الثاني الخير كل الخير وفي الأول مواجهة الأخطار والمستقبل المظلم؛ فاخترت ركوب الأخطار وسافرت على بركة الله. وفي ليلة من الليالي الكالحة السواد، دخلت قبل انتصاف الليل مدينة دمشق فما علم بمقدمي حتى أذن لي بالدخول عليه. فقال أن مجيئك في هذه الساعة من الليل لابد أن يكون لأمر خطير. قلت نعم هو لخدمة أؤديها. قال وكيف تركت بيروت والفرنسيون يمنعون التجول بعد السابعةوأراك تركتها بعد ذلك بزمن طويل، قلت حرستني سيارتان مدرعتان على كل واحدة منهما مدفع رشاش استلمتني واحدة من وسط البلد وأخرى من فرن الشباك، وتركتني الثانية عند عاليه، ولازمتني الأولى حتى ظهر البيدر كأنهما تتوهمان أن طريقي سيكون إلى بيشامون. ولما عرضت عليه ما جئت من أجله قام فوراً إلى قصر رئاسة الجمهوريةوأطال المكث هناك، ونمت مستريحاً لأني وضعت الأمر بيد رجل إذا اقتنع فعل. وفي الصباح المبكر أعلمني دولة جميل بك بما طمأن قلبي، وفي المساء لقيت الجابري فإذا هو يمزح كعادته ويقول: تصور لو تأخرت مجازفتك دقائق معدودة إذن لضاع الوقت معنا.
ثم تغيرت الأيام وتبدلت، أما سعد الله الجابري وطائفة من أهل سورية فلم يتبدل لهم موقف معي. لقيته بعد ذلك بمصر فما إن وقع نظره علي حتى خف إلى لقياي وأخذني بالعناق على مشهد من رجال مصر الذين دهشوا من هذا اللقاء. إنهم لن يعرفوا ما كان بيننا في طريق الجهاد الوعر لتحقيق المثل والأهداف. ومات سعد الله وكتب عنه الكتاب وإذا بكثيرين يقولون إنه كان عظيمافي مواقفه الحاسمة وتصريحاته الجريئة، أما أنا الذي عرفته قبل أن يعتلي المراكز ويحكم، فأقول إن مواقفه وتصريحاته كانت أمراً عادياً يأتيه كل يوم، كانت جزءاً من شخصيته وفكره وروحه لا يشعر بخطورتها ولا تشغله لحظة واحدة بعد إتمامها وهذا سر عظمته وتفوقه. . .
والآن وقد أغمض عينيه واستراح بعد أن كان ملء عين الزمن، لا يهمني أن أسوق المدح