أما مسألة العربية الفصحى فلا زلنا نقول إنها ليست بمشكلة كما يتصورها المستشرقون وأتباعهم، (وليست بعائق في سبيل نشر التعليم) كما تقول الجريدة الإنجليزية، لأن للعربية الفصحى مراتب في التعبير، فكما أن فيها المرتبة العالية الصاعدة، فإن فيها أيضاً المرتبة السهلة القريبة، فمثلا الصحف العربية تكتب بأسلوب عربي فصيح، وهو أسلوب لا يتعذر فهمه على العامة وجمهور الشعب، بل إننا كثيراً ما نجد رجلا أمياً يستحضر قارئاً يتلو عليه الجريدة وهو منصت لما يتلو عليه، فلا يجد أدنى مشقة في فهم ما يسمع وإدراك ما ينطوي عليه من التلميحات والإشارات.
ومنذ سنوات مثلت في مصر روايات شوقي، وهي بالعربية الفصحى العالية، فأقبلت عليها جماهير الشعب إقبالا كبيراً، وكانوا يفهمون قصائدها ومقطوعاتها فهماً طيباً، وكثير من العامة يحفظون مقطوعات كاملة وأبيات سائرة من هذه الروايات ويفهمون ذلك فهماً لم يعنهم عليه من مدرس أو شارح.
إن الصلة بين العامية الدراجة والعربية الفصحى ليست بالبعد الذي يتصوره أولئك الثائرون على العربية الفصحى، وإن الشعب ليس بمنقطع عن هذه العربية كما يخيل لأولئك الناس، فإن بين العامية والفصحى صلة وثيقة في النطق وفي استعمال كثير من الألفاظ والتعابير، ويمكن أن يكون الاختلاف التام بينهما في الإعراب، وهو اختلاف لا تأثير له في هذه الناحية، ولا يصح لباحث أن ينسى في هذا المقام أن القرآن الكريم وهو أفصح ما نزل في العربية يتلى على جموع الشعب ليل نهار، وأن خطب الجمعة تلقى في كل أسبوع بالعربية الفصحى، وأن عامة الشعب يؤدون صلواتهم ويرددون أورادهم وكلها بالأسلوب العالي الرفيع، وأن خطباء المحافل في الوعظ والإرشاد وفي التأبين والرثاء، وفي الدعايات الانتخابية والسياسية إنما يتحدثون إلى الشعب بهذا النمط من الأسلوب، وكل هذا مما طبع ذوق العامة بطابع عربي، وقرب المسافة في إدراكهم إلى حد كبير بين العامية الدارجة والعربية الفصحى. . . فكل الكلام الذي يثار في هذا الشأن، ويصور مسألة العربية الفصحى على أنها معضلة يجب التغلب عليها بالتدلي إلى العامية إنما هو كلام متهم وتصوير مبالغ فيه لا يقوم على إدارك الحقيقة ومعالجة الأمر بنزاهة. . .