منه، لأنه دين جاف لا يلين للعواطف الصوفية، بينما يستند الصوفية دائما في أقوالهم إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فكل هذه الآراء تجبرنا وتلزمنا بأن نلم بالأصول الثقافية التي دعت إلى ظهور التصوف وساعدت على نموه؛ وأن نعرف قبل أن نقبل على دراسته تاريخ الإسلام السياسي وأثره في الحياة الصوفية، وتعاليم الدين المسيحي ونظم رهبنته ومدى نفوذه في العالم العربي، ونظريات الأفلاطونية المحدثة، ودين الإسلام وروح تعاليمه في القرآن الكريم والحديث الشريف، وتاريخ التصوف الهندي والفارسي.
ثالثاً: إن كان هناك من يؤكد بأن نشأة علم الكلام دعت إليها الحياة العربية، وحاجتها للدفاع عن تعاليم الإسلام، ومقاومة كل الحركات التي ناهضت الإسلام، وعملت على تقويض نفوذه وهدم تعاليمه؛ إلا أن هناك أيضاً يمن يعتقد أن علم الكلام كان مجرد محاكاة للجدل اللاهوتي المسيحي، وأن حججه وبراهينه كلها مأخوذة من الفلسفة اليونانية. ولكي نمتحن هذه المزاعم يتطلب منا أن نحيط علماً بمختلف التيارات الثقافية التي ناهضت الإسلام وتعاليمه، وبنوع الجدل اللاهوتي الذي كان يدور بين المسيحيين ومدى شيوعه في المملكة العربية، وبالفلسفة اليونانية وطرق إقامتها للحجج وأسلوب جدلها المنطقي وروح براهينها.
نستنتج مما تقدم أن الباحث في الفكر العربي لن يصل إلى شيء ذا خطر علمي، ما لم يمون نفسه بالزاد الثقافي الذي يحتاج إليه، حتى يكون دقيقاً عميقاً في أبحاثه، صادقاً مصيبا في أحكامه ولكي نسهل عمل كل من يرغب في أن يشتغل بهذا الفكر، نخطط له برنامجاً ثقافياً، عليه أن يستوعبه قبل أن يبدأ في تناول أي بحث فلسفي عربي أياً كان نوعه، ويتخلص هذا البرنامج الثقافي في الخطوات الآتية:
١ - أن يبدأ الباحث بدراسة تاريخ الفكر الفارسي، وتاريخ الفكر الهندي في أصوله، ثم على حالتيهما اللتين وصلتا العرب.
٢ - ثم يدرس الفلسفة اليونانية دراسة تفصيلية في مختلف أطوارها، منذ نشأتها إلى يوم أن نقلت إلى اللغة العربية.
٣ - ثم يدرس تعاليم الديانات السماوية الثلاث، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية، ويدرسها أولا في أصولها، ثم علي حالتها التي كانت عليها في العصور العربية.
٤ - أن يتتبع تاريخ الإسلام السياسي، ومدى أثره في الحياة الثقافية.