ما قلت لك. فأجبته ضاحكاً: لا تخف، فأنا لم اقصد صاحبك إلا من احل أن اهتدي بهديه واطهر نفسي مما علق بها من الرجس، فبرقت أسارير صاحبي واطمأن إلى وطمع في رضا سيده عنه وتقريبه إليه. ولما بلغنا المكان الأقدس سمعنا أصوات المؤذنين تتجاوب بها المآذن، وشهدنا زحاماً عظيماً على بابه، فشق لي صاحبي طريقاً للوصول إلى المصلى فدخلته ورأيت الناس ما بين قائم وقاعد ومتوضئ، ودنا وقت الخطبة، فخرج على القوم شيخ هائم غائر العينين، وتراكض القرويون إليه يقبلون يده فحسبته صاحبهم وهممت أن افعل فعلهم لولا أنني سمعته يقول: استعدوا فنبيكم قادم، فأدركت إنه أحد صحابته المقربين، وما لبث الشيخ أن اقبل على مهل، وروائح الند والكافور والطيب تضوع من أردانه، فخر القوم سجدا وبكيا، فرأيت عملا بوصية ديدباني أن افعل فعلهم، ولم ادر ماذا كانوا يقولون في سجودهم غير أنني سمعت رجلا إلى جانبي يقول:(يا أبا الورد، يا منبر الظلمة في اللحود، ويا منقذ الصحب في اليوم الموعود، كن لنا شفيعا للغفور الودود)! وقد كال سجودهم ولم يرفعوا منه رؤوسهم إلا بعد دقائق عشر، ولما نهضوا تقدم فوج من النسوة يلثم الأيدي الشريفة، وتبعهن الرجال وأنا في مؤخرتهم، ومذ وقع بصره علي وصافحت عيناه عيني حد جنبي بطرف موقر وأدرك بثاقب بصره أنني ما أتيت متجشماً المصاعب إلا من اجل الوقوف على رجليه أمره، فتظاهر أمامي بالورع والسذاجة وابدى لي الاحترام ورحب بي، وصعد المنبر وأخذ يتدفق في خطابه تدفق السيل وأورد من الأحاديث العجيبة ما لم يسمع به إنسان، ولو أن (سيبويه) سمعه لفضل الموت انتحاراً. .
وبكى المستمعون ما وسعهم البكاء، وبدا لهم بثوبه الأبيض الناصع الحريري، وعمامته الضخمة المكورة على رأسه والمنتهية بعذبة طويلة كأنه ملك من الملائكة. . واختتم خطبته ونزل إلى الصلاة وهم يتسابقون إلى التمسح به والسعيد منهم من حظي بلمس طرف ردائه، ووقف للصلاة وسبحته الطويلة تهتز على صدره، ويبدو الكحل في عينيه خطوطا سوداء براقة، وما كاد يقرأ الفاتحة حتى اهتز القوم طربا لبراعته بالتلحين والتطريب حتى كدت احسب إنه يغنى (العتابا) أو (الميجانا) وانبعثت من حناجرهم الفولاذية الصرخات المدوية، وأخذوا يبكون في الصلاة ويجهشون في البكاء ويقفزون في الهواء قفزات بهلوانية ويقلدون أصوات الحيوانات فكنت لا اسمع إلا الثغاء والمواء والعواء والجئير والزئير