الصحراء تنظر إلى كل ذلك بفتور وملل فإذا بشيء يعلق به نظرها، لقد لمعت أمام عينيها شمس الصحراء: هناك في الحديقة الصغيرة شجرة نخل، نعمانها صغيرة هزيلة، ولكنها كانت كافية لأن تمثل لها وطنها العزيز. لقد أثر منظر تلك الشجرة في فتاة الصحراء تأثيراً عظيماً، وأعطى روحها حرارة شمس لطيفة أجرت الدم الذي جمد في عروقها منذ فارقت صحراءها، وفتحت تلك الشجرة الطريق بين عينيها وبين الصحراء النائية عنها: فرأت أباها وأمها واخوتها، وعلى قيد غلوة منهم رأت جملها الذي يغمض عينيه السوداوين الكبيرتين أمام الشمس وهو يمد عنقه إلى الأمام.
لقد جاءتها هذه الشجرة بالصحراء، الصحراء العزيزة عليها، وبكل شيء قد تركته هناك، وألقته في أحضانها فكأنها بجانبه تلامسه ويلامسها.
نظرت إلى زوجها بعينين يلمع فيهما بريق السعادة لأول مرة بعد عدة شهور، كانت تلك النظرة تفيد معنى: إنني وجدت مبتغاي، وإني هنا، هنا فقط أستطيع أن أعيش بجانب هذه النخلة الصغيرة.
لقد حلت تلك الدار المشرفة على مياه الخليج من قلب المرأة محلاً رفيعاً، فأحبتها بعد زوجها، بقدر حياتها، بقدر وطنها. نزلا في الدار وعاشا فيها سنة طويلة.
كانت تعيش هنا بعيدة عن الناس لا تخرج لزيارة أحد كائناً من كأن، بعيدة عن الحياة الغريبة، عن الوجوه الغريبة، في تلك البلدة الغريبة.
لقد زارتها جاراتها يوماً، فلما رأينها لا تبتدئ معهن خطاباً ولا ترد عليهن جواباً إلا بنظراتها الفاترة الحزينة التي تطلب بها الرحمة والشفقة، ذهبن في الحديث عنها مذاهب شتى كل واحدة ترى فيها رأيا، فلما علمن أن بينها وبينهن حاجزاً من الاختلاف في اللغة يمنعها من الاتصال بهن تألمن لها أشد الألم، ثم أخذت تلك الرحمة تستحيل إلى سخرية واستهزاء.
إن أهل المدن فطروا على أن يعدوا أهل الصحراء دونهم في كل شيء، وهكذا كان شأن نساء تلك المحلة، كن يستهزئن بالمرأة المسكينة، وكن يضحكن منها ويقهقهن، لأنها لا تفهم ما يقلنه من الكلمات فيها، وكن يجدن في ذلك لذة عظيمة كما يجد الأولاد القساة لذة في تعذيب الحيوان الذي لا حول له ولا قوة، فشعرت فتاة الصحراء بذكائها الفطري أنهن كن