لقد نسى نساء الحي وجود فتاة الصحراء بينهن، عدا عجوز دردبيس كانت تتردد على نساء الحي فتقص عليهن أحاديثها وجدالها مع كنتها، وتقلق راحتهن بتلك الأحاديث التي لا تعرف الانتهاء، حتى مللنها وسئمن ثرثرتها، فكانت تتردد على فتاة الصحراء فتجلس أمامها وتبدأ حديثها باسم الله وتبقى مدة طويلة تتكلم وتتكلم، ثم تختم القصة بدموع ترسلها من عينيها وتغادر البيت وهي تقول للمرأة التي لم تفهم منها غير دموعها:(إلى الملتقى يا بنيتي لقد أزعجتك بثرثرتي، شرفينا).
كانت العجوز لا تني عن زيارة فتاة الصحراء، وأخيرا شعرت إنها وحدها التي كانت تتكلم طيلة هذه الأيام، فقالت لفتاة الصحراء: ما لك لا تتكلمين يا ابنتاه؟ أبكماء أنت أم ماذا؟
فلما رأت فتاة الصحراء لم تجبها إلا بابتسامة مبهمة ولم تقل إلا برأسها نهضت وغادرت المكان على إلا تعود إليه مرة أخرى.
لم يبق من يطرق باب الدار الصغيرة، ولم يبق من يوقظ شمس الصحراء النائمة هنا من أحلامها، إلا إنها أحياناً كانت تنزل عند إرادة زوجها ورغبته وتذهب معه إلى النزهة، ولكنها كانت تعود إلى بيتها وهي مريضة قلباً لا جسماً، لقد كانت تشبه طائراً صغيراً فارق عشه ليطير، فوهى جناحاه ووقع على الأرض.
إنها لا تكون سعيدة إلا إذا كانت في منزلها منفردة بنفسها أمام شجرة النخل مستغرقة في رؤياها، وفي ذلك الحين فقط تظهر الشمس لعينيها؛ إنها حين تجلس تلك الجلسة، في تلك الساحة التي يبدو لها منها وجه السماء، والتي تشبه في نظرها قصرا من القصور تنسى ذلك الدور الأخير من أدوار حياتها، وتعود بخيالها في غفلة لذيذة إلى تلك البحار الرملية التي تجري فيها بقوة هائلة س يول أشعة شمس بلادها فتغمرها غمرا، وتملأ أرجاءها ونواحيها.
إنها في ذلك الحين حين تجلس إلى تلك النخلة التي تشبهها في محبة الوطن، وتشاركها الأسف والحزن، وترتسم على شفتيها ابتسامة حزن يائسة، لوقوعها بعيدة عن وطنها وعن شمس وطنها وعن سماء وطنها، تجمع تلك الهضاب والتلال التي أمامها بعضها إلى بعض، حتى يغيب عن نظرها ذلك البحر الذي أمامها، وترى أشعة الشمس تغمر تلك الصحراء،