وتبصر ألوف النخيل المنتشرة فيها يسلم بعضها على بعض من بعيد بأغصانها الخضراء العالية الرءوس فإذا رسمت في خيالها هذه الصورة الجميلة، وأتقنت صنعها كل الإتقان، وأعطتها من حسن تمثيلها حياة حقيقية، خيل إليها إن آباها وأمها واخوتها وجملها ذا العينين الواسعتين السوداوين أمامها وتحت نظرها، فخفق قلبها لهم، وحاولت أن تهجم عليهم مسلمة معانقة.
وربما ذهبت بعض الأحيان في النهار إلى الحديقة ووضعت حصيرا تحت النخلة التي لا ترد أغصانها عنها أشعة الشمس واضطجعت عليها، ورفعت عينيها إلى السماء، وسافرت بفكرها إلى أقصى حدود الخيال.
كانت ترى قطع السحب تمشي في السماء على غير انتظام، فهي إذن أما ذاهبة نحو قومها، أو آتية من عندهم؛ فالسحب إذن قد رأت قومها أو سترأهم، فكانت تبتسم لهؤلاء السائحات وتسألهن: ألم يجئنها بسلام من قومها وصحرائها؟ أو تسألهن أن يتركن لها في أجنحتهن مكانا صغيرا يسع خبرا عنها لقومها وأهلها.
في أعقاب خريف السنة التي قضتها في تلك الدار رأت الطيور تطير أسرابا أسراباً في السماء، فاهتمت لذلك وسألت زوجها عنها فقال لها:(إنها ذاهبة إلى بعيد! إلى البلاد الحارة). فقالت في نفسها إنها ستمر إذنبوطنها العزيز. فكانت تضطجع تحت نخلتها وتغني بصوت حزين أناشيد قومها وألحانهم الشجية، مضمنة ذلك شوقها الشديد، متوهمة إن تلك الطيور ستقفل راجعة إليها تحمل إليها أجوبة تلك الألحان والأشواق.
جاء الشتاء بخيله ورجله، وأصبحت فتاة الصحراء لا تقدر على الجلوس تحت نخلتها، والتمتع بظلها، وشم رائحتها، فأخذها من اليأس ما زاد في الأم نفسها، وأصبحت تقعد بجانب نافذتها ساعات فراغها من عمل المنزل غارقة في بحر من الألأم والأفكار، فما يدري ما الذي كان يشغل خيالها ويقلق بالها في ذلك الحين، أمنظر النخلة التي كانت تخشى عليها من البرد القارس، والهواء العاصف؟ أم انتظار الطيور تقبل عليها من ناحية من نواحي السماء المستورة بالغيوم، تنقل إليها أخبار أهلها ووطنها؟
كانت فتاة الصحراء كلما مضى يوم من الشتاء هزلت وضعفت، وأخذ نور عينيها يخبو تدريجا. فلم يخف ذلك على زوجها، فقال لها: (ما بك؟ أراك تخفين عني شيئا يمضك