ويؤلم، لقد سئمت الوحدة وتشوقت لرؤية أهلك وصحرائك) كانت تنكر ذلك، ولكنها كانت شوق زائد إلى رؤيتهم، إنها اشتاقت إلى الصحراء، إلى شمسها، إلى جوها الصافي، إلى نخيلها، إلى والديها واخواتها، إلى جملها، اجل! أشتقات إلى كل هؤلاء، ولكنها كانت كالأطفال تنكر شوقها وتصر على الانكار، ومع هذا كانت تدير وجهها تحت تمثال صحرائها، إلا وهو نخلتها وتنظر إليها بحزن عميق.
اقبل الربيع:
علمت ذلك من زوجها فابتهجت وفرحت: جاء الربيع، كانت تظن انه إذا جاء الربيع. أتاها بتذكار جميل من أهلها ومن قومها، ولكن هيهات، جاءها الربيع بالمصيبة الكبرى: ستباع الدار، وهما مضطران إلى النزوح عنها إلى غيرها.
الدار يبيعها صاحبها: ستفارق إذنفتاة الصحراء حلمها الجميل، ستفارق النخلة، خطر لها خاطر فجائي وهو أن تأخذ معها شجرتها إلى الدار التي ستسكنها، ذكرت لزوجها رأيها فوافقها على ذلك، وقرراً أن يأخذا معهما النخلة سلوتها الوحيدة.
رحلا إلى دار صغيرة مظلمة في حي فقير مظلم فصنعا للشجيرة محلا أمام النافذة ووضعاها فيه وربطاها إلى حديد النافذة.
لقد قنعت فتاة الصحراء بهذه الدار الصغيرة المظلمة، ما كانت ترى في هذه الدر السماء الصافية، ولا الشمس المشرقة، ولا القمر الزاهي، ولا النجوم الزاهرة، ولا الدور الشاهقة، لكنها كانت ترى نخلتها المحبوبة فيسكن قلبها لرؤيتها، فحياتها منوطة بها. تجلس دائما بقرب النافذة واضعة رأسها على يدها، وتنظر إلى رفيقة وطنها بقلب أضناه الشوق وبرحت به الذكرى. ولكن النخلة كانت تذوى كطفل أخذ غصبا من حضن أمه، وفتاة الصحراء تذبل بذبولها كشجيرة انتزعت من مغرسها، فاستحكم الذبول في الاثنتين، فكان يظن الناظر إليهما أن سراج حياتيهما ينطفئ تدريجا.
نهضت يوما من فراشها وذهبت كعادتها إلى نخلتها، ولكنها تراجعت إلى الوراء دهشة، ماذا ترى؟ رأت نخلتها العزيز رفيقتها ومؤنستها قد انكسرت من وسطها حيث الرباط، وسقط رأسها إلى الأرض، فهدت تلك المصيبة من قوة الفتاة، فجلست بجانبها وذرفت دموعا غزيرة خرجت من أعماق قلبها المحطم لفراق الوطن والأهل.