وارتفع الصخب حتى كاد يغطي رنين الأوتار، إذ وافى المجلس غانيات خمس كما يوافي الأمل دنيا موعود، فخشعت الأصوات وكأنها اطمأنت، وسكنت الضجة حتى وضح عزف المزاهر، واستوت القادمات مجلسهن حول بشار، ثم أندفع المغني يردد قول شاعرنا:
أيها الساقيان صبا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رُود
إن دائي الظمأ وإن دوائي ... شربة من رضاب ثغر بَرُود
وأخذ الشادي يترفق باللحن تارة فتستنيم القلوب من النشوة، ويشتد به أخرى فتعصف بها الرغبة ويسمع لها وجيب.
هذا بشار في شغل بضيفاته يميل على هذه ويداعب تلك، ويهمس في إذن الأخرى، ويسر إليها حديثا لا يسمعه أحد، ولكنها تضحك فيفتضح المعنى وينكشف السر. وإذ تستجيب له الغانيات ويتهافتن عليه، تتمنع واحدة منهن وتزور عنه في كبرياء يمازجها دلال آسر. . . ويرتسم العجب على وجه بشار من أهوائها فيقبل على غلامه يسأله عنها فيعلم أنها (عبيدة).
كانت الفتاة كاملة الصغو للمغني تكاد تشرب النغم وكأنها لا تروى على كثرة العب وطول الرشيف، حتى إذا انتهى المغني أخذت عبيدة تعيد النغم بعده وتقلد تقليدا تاما راع الجمع وآثار دهشتهم وبشار في هذه المرة لا يتلاهى عن الغناء، بل ينصت ذاهلاً بحواسه كلها، حتى ليخيل إلى من يراه أن بصره ذهب في هذه اللحظة فقط استجابة لرغبته في أن يكون له عوضا عن البصر سمعان.
وتفرغ عبيدة من الغناء وتومئ إلى صاحباتها أن يتهيأن للخروج فيلبين دعوتها، وتخلف وراءها بشاراً غريقا في لجج النشوة، تائها عن نفسه وعن الوجود حتى إذا استفاق من غشيته ولم يجد الشادية، انطوى على نفسه، شارد اللب موزع القلب يعبث بعود ريحان في يده يخط به على الأرض تارة، يعبث بوريقاته تارة أخرى، ثم يسبح له خاطر فيضغط عل وريقات العود ويعتصرها في كفه، فتحتضر المسكينة ولا ذنب لها.
ويتقدم إليه هشام بن الأحنف راويته يسأله بمن يا ترى يهذي فيتمتم:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والإذن تعشق قبل العين أحيانا
ويكمل بشار القصيدة ويأمر راويته أن يكتبها ويسلمها لغلامه ليبلغها عبيدة التي هشت له،