ومالي وللسياسة؟ وما لبست لها لباسها، ولا أعددت لها سلاحها، ولا عرفت مسالكها ورب جاهل جال في الطرقات، وصاح في المواكب، وولج وخرج، وخالط الكبار والصغار، وصحب الأعلياء والأدنياء وعرف لسان كل فخاطبه بلسانه، اقدر على السياسة مني ومن كل أديب في الدنيا وكل عالم. ورب رجل مثل هذا لا يموت حتى يصير اسمه ملء الأسماع، وملء الصحائف، ويكون علما في طريق التاريخ وآلاف مثلي في (أخصاصهم) لا يدري بهم أحد!
ولكني راض بما أنا عليه قانع به، لا ابتغي أكثر منه، وهل ابتغي أكثر من مرتب كاف يريحني من الكدح للعيش والسعي للخير، وعمل لا يأخذ من وقتي وذهني إلا الأقل أقوم به بما أستطيع من الأمانة، فأخذ الراتب بما يمكن من الحل، ثم اتصل بقراء أشاركهم أفراحي وأتراحي وبصحب انس بهم ويانسون بي، وأهل اخلص لهم ويخلصون لي؟
فماذا بعد هذا؟ وهل النائب أو الوزير أو الرئيس اسعد نفساً واهدأ بالا مني؟ وهل السلطان اكبر من الأديب؟ هل النعمان اعظم من النابغة؟ وسيف الدولة اجل من المتنبي؟ والخديوي عباس اخلد من شوقي؟ وهل بيني الحكومات ويهدمها، وينشئ الممالك ويدمرها ويرفع الأمم ويخفضها إلا الأديب؟
فمالي وللسياسة، وأنا قد تشرفت بان أسير في ذيل ركب الأدباء إلى سوح الخلود؟
لقد كانت تجربة لن أعيدها، ولو جرتني إليها كل حروف الجر، لقد كانت تجربة تعلمت منها دروسا جمة أهمها إني لست مخلوقا للسياسة، أن السياسي هو الذي يقول للحمار: أنت غزال بأذنين طويلتين! وأنا لا أقول للحمار، إلا يا حمار، فان غضب فدونه (بردى)!