رائحة غادية تحت عين. وكان حديث الفنان يحيي هذه الصور في نفس حياة جديدة، حتى كدت إخالنيأحدثها وأسمع وجع حديثها، وأرى الثياب الفضفاضة، والعمائم البيض، واللحى المرسلة، والسمت الوقور، والمشية الهادئة، وكأن كلل شيء قد أنقلب فجأةفصار ماضياً لم تمسخه يد الحضارة الغربية الحديثة، ولم تمح من بهائه وروائه ذلك الجمال الوديع اللطيف المطمئن القانع بالحياة كما شاء الله أن تكون.
ثم نزلنا من السيارة، وفتح لناباب القاعة التي صارت في عداد الآثار، فماكادت قدمي تطأ بلاطها الضخم حتى أحسست كأن قلبي ينتفض من فجاءة الذكرى، وكأني دخلت داري التي ألفتها وعشت فيها، وسمعت في أرجائها غمغمة الحديث وقهقهة الضحكات، والتي سعيت في نواحيها طفلاً وشاباً وكهلاً حتى نشأت لها في قلبي مودة لا تبليها الغربة، ولا تطمس آثارها الرحلة في أرجاء الدنيا، وتطارح الزمن المشت الفرق بين الأحباب والأحباب. ففي هذا المكان عهدتني أجلس على أريكة موشاة بالثياب المطرزة، وأستقبل هذه (الفسقية) الجميلة التي أراهافي وسط القاعة، مزينة أرضهابالرخام الملون المرسوم على أشكال تستريح إليها العين راحة لا يعدلها شيء من متاع هذه الأرض. ومن هذا المكان عهدتني أرى تلك الحلية الهائلة التي كأنها محراب الدهر، مصنوعة منمقة، قد أجلها وأدقها الصنع الماهرالذي لم يعبأ بالزمن كيف يمضي ويتصرم، بل كانكل همه أن يتقنالفن الجميل الثابت الذي يربك الإبداع في صورةحيةباقيةتشعرك بأن الحياة هي الاستمتاع بفن الحياة لا بأشياء الحياة. ومن هذا المكان كنت أرسل طرفي إلى القبة العالية التي تتوسط السقف كأنها هامة مفكرة كل أفكارها أحلام جميلة سامية لم تتدنس بالمطامع الدنية التي يكدح في سبيلها الإنسان على أديم هذه البسيطة.
وجعل صديقنا الفنان يحدثنا وهو يتدفق من نواحيه عن روعة هذا الذي نرى وعن جلاله وعظمته، وعن هذه الضخامة الهائلة في البناء، وكيف استطاع بانيها الفنان أن يحفظ النسب بين ضخامتها وبين سائر ما في القاعة كالأبواب وغيرها حتى لايشعر الإنسان بالرهبة والمخافة والارتياع، بل يشعره بأنه مالك هذا كله والمستولي عليه والمستمتع به، فهو يروض الفخامة والضخامة حتى تكون أليفة مستأنسة محبة إلى رائيها وصاحبها، فجعل الأبواب بين بين لا تطول قامة الرجل إلا قليلاً، ولم يجعلها هي أيضاً عالية ضخمة فخمة،