للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيحس المرء عندئذ بالقلة والذلة والغربة والوحشة في البيت الذي هو سكن النفس ومكان ارتياحها؛ وكنت أسمع هذا ونحواً منه، ولكن لم يأخذني منه شيء، فإني كنت أسمع همسات من هنا وهنا ومن ثم، هي همسات الآباء والأجداد تذكرني بما أضعناه من فن نحن أنشأناه وتعهدناه، وقمنا عليه وأتقنا دقيقه وجليله، ثم رحنا نستعير أشياء الناس نتشبع بها ونتصنع، على غير هدى ولا بصيرة ولا فن، وأكاد أقولولا حياة، فنحن أحياء ولا أحياء، لأننا نستعير حياتنا ولا ننشئها إنشاء، ونتزين بزينة سماوية نحن فيها كالصعلوك الأشعث الأغبر في ثياب ملك. كنت أسمع حديث الأسلاف، وأسمع في صوت صديقنا الفنان وهو يشرح ويبين بكاء وحسرات وتنهدات وآلاماً كأنه وقف يؤبن أعز أحبابه متجلداً خاشعاً بين أقوام لا يحسون ما يحسولا يشعرون ما يشعر به. إنه خليق أن ييأس، ولكنه يجاهد حتى ينتزع الأمل من بين دواعي اليأس، يريد أن يستنقذ الدرة المضيئة قبل أن تلفها الأمواج الطاغية العاتية وتذهب بها إلى حيث لا رجعة.

كنت كالمأخوذ لا أريد أن أفارق هذا الملك الذي أعيش في رحابه. إنها قاعة صغيرة، ولكنها اتسعت حتى رأيتها تشمل كل هذه الأرض المصرية لأن كلشيء فيها منتزع من طبيعة الأرض وجوها وسمائها وأيامها ولياليها واختلاف فصولها، ومن طبائع أهلها وشمائلهم ونوازع قلوبهم ومن كل شيء يقول أنا مصري عربي. وأخيراً فارقتها على رغم، ولم أدر حتى انتهينا أو انتهت بنا السيارة إلى قاعة أخرى أو أثر آخر بني بعد جيل من زمان هذه القاعة، فكان الفرق بيناً. فقد أخذ الضعف يغزو القوة، ولكن القوة أبت إلا أن تتبدى كما هي برغم هذه الطوارئ التي تنتابها أو تعمل فيها. فهاهنا أثر الضعف الإنساني إذا بدأ الإنسان يشعر بأنه غير حر وغير مريد للحرية، وإنه مروع في حياته بشيء لا يملك له دفعاً ولا رداً، فهو يتخاذل وكذلك يتخاذل فنه ويتخاذل بناؤه. وهو حائر لايدري مايأتي وما يذر، فإذا فنه حائر لا يدري ما يأتي وما يذر، وهو مختلط الإرادة، وإذا فنه مختلط يأخذ بأسبابها الأولى ولكنه لا يلبث أن يحيد عنها إلى شيء ليس منه ولا من خاص طبائعه. ومع كل ذلك فإن النفحة الخالدة لا تزال عالقة به تجعله قوة صريحة مصممة مريدة للبقاء.

ثم خرجنا إلى آخر أثر زرناه وهو (بيت السحيمي)، وهو بيت كامل - لا قاعة ولا جزء

<<  <  ج:
ص:  >  >>