من بيت - وأخذنا نطوف في أرجائه ونواحيه، فهذه غرف الضيوف، وهذا مصلى الرجال، وهذا مكان الطعام، وهذه غرفة استقبال النساء، وهذه غرف النوم، وهذا مصلى النساء، وكلها موزعة على مساحة الأرض في الطابق الأسفل والأعلى على نظام هندسي فيه شيء من التحرر من أسر الهندسة الدقيقة، فتكاد تشعر بأن بانيه لم يكن يبالي أن يتقيد بشيء، بل يريد أن يكون حراً طليقاً يفضي من مكان إلى مكان كما يشاء له هواه. وكنت كلما دخلت منها مكاناً أحسست بشيء فيه يناديني، فلما دخلنا القاعة الأولى هتف بي الهاتف إلى الصلاة، فقمنا نصلي، فكأني ما صليت في دار قط سوى هذه الدار. إن في روح البناء إسلامية عجيبة، فيه ورع وصدق ومحبة وتخفف من ثقل هذه التكاليف الداعية إلى الكدح والطمع والعدوان، وفيه ألفة لم أحس بمثلها قط، ولم أشعر إلا يومئذ أن أصدقائي الذين معي هم أصدقائي لا معارفي، ألقاهم بوجه وأستدبرهم بوجه، ولم أجد إلا يومئذ تلك اللذة المنعشة بالأخوة تجمع بين الرجلين على اختلاف الدار والنشأة، وخفق قلبي خفقة كأنه يقول لعلال الفاسي: مرحباً بك من أخ جمعت بيني وبينه أخوة هذا الدين النبيل الذي جعل أهله أمة واحدة فكانت خير أمة أخرجت للناس.
ومضينا نطوف بالدار العجيبة، فكأني كنت أسمع حس أهلها وهم يتنادون، وأراهم وهم يسعون وأشهد إمائهم وعبيدهم وهم يطوفون عليهم، وأرى الضيوف وهم يتسامرون. فلما دخلت غرفة استقبال النساء، ورأيت الذوق اللطيف والنوافذ عليها المشربياتالدقيقة الصنع، والخزانات القائمة في الجدران بنقشها البديع، ورأيت (الصفة) التي يلمع رخامها وتتحلى بزينةمن رسومها الدقيقة وأعمدتها القائمة كأنها ساق غانية راقصة، ورأيت ذلك الزجاج الملون بالألوان الهادئة الناعمة، وهذا الجو الساطع بالغنى والنعمة، الساكن بالوقار والطمأنينة، الناعم بالرقة والجمال؛ عندئذ أخذني مثل الحلم فرأيت ربة الدار في حليها الأنيق وثيابها الموشاة، وضفائرها المرسلة. ووجه ينير في جنبات هذه القاعة بالنبل والكرم والحفاوة بضيوفه من الأصحاب والأحباب، وسمعت حديثهن المتخافت باللفظ المرقق والصوت الناعم المنغم، وانتهت إلى ضحكاتهن الحبيبة التي كأنها ابتسامة مشرقة من وراء نقاب. رأيت الماضي ينبعث كله بفضائله ورذائله، ورأيتني أعيش ساعة أتنسم نسمات من حياة أجدها في دمي، كما يجدها كل مصري وعربي في دمي، ولكننا كدنا ننساها بطول