للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الترك وقلة العمل على استحيائها واستنقاذها واستعادتها، حتى نتعلم منها كيف نكون أحراراً في التعبير عن سر طباعنا الكامنة في أعماق قلوبنا وضمائرنا. إن هذا الفن الذي أوحت به حضارة لها أصول لا تزال قائمة في نفوسنا، وفي تربة أرضنا، وفي جو سمائنا - ينبغي أن ينبعث جديداً مرة أخرى بما يلائم حاجتنا، وبما يعنينا على تمييز أنفسنا بين الناس فلا ندخل في غمار حضارات الأمم التي لا يجمع بيننا وبينها وطن ولا دين ولا أدب ولا جنس ولا دم ولا شيء مما يتقارب به الناس أو يختلفون، وتمنيت عندئذ أن أفيق من أحلامي فأجدني قد رجعت إلى داري فإذا هي تنفحني بهذه النفحات التي تحيي النفس لأن فيها شيئاً من سر هذه النفس. فلما خرجنا من بيت السحيمي حقق الله طرفاً من هذه الأمنية.

لقد حملنا صديقنا الفنان إلى داره، وهي في عمارة كسائر عمارات القاهرة في ظاهرها، وهو يسكن منها شقة كسائر الشقق التي يسكنهاسائر المصريين، بيد إن المصريين يعيشون عبيداً لهذه الهندسة الغربية الغريبة عن بلادهم، ويسكنون فيها إلى أنماط من الحياة ليست وليسوا منها في شيء. أما هو فما كاد يفتح لي الباب حتى هبتتلك النفحة المسكرة من الماضي المنبعث حياً نابضاً كأحسن ما تنبض الحياة. لقد رفعت هذه الأبواب الحديثة الثقيلة ووضعت مكانها الستائر من النسيج العربي الشرقي بألوانه وتقاسيمه وفنه، ووضع مكان بعضها أبواب مشبكة، وأقيمت هنا وهنا المشربيات الدقيق، وبسطت الأرض بالبسط العربية الرسم المصرية الصنع، وهذه الأرائك والمناضد والقناديل وكل شيء يجعل البيت عربياً هادئاً مطمئناً في وسط هذه المعمعة الطاحنة الفوارة التي تسحق طباعنا، وتمسخ قلوبنا، وتحيل أذواقنا، وتجعلنا عالة على الأمم، نأخذ منها عارية لا تزيدنا حضارة بل تزيد بؤساً وشقاء وحيرة ونفوراً وقلقاً في هذه الحياة وفي هذه الأرض، وفي هذه الطبيعة التي تكتنفنا من حولنا، وفي هذه الطبائع التي تستولي على دخائلنا وضمائرنا.

هذا بيتي! هكذا قال لي قلبي، فاطمأننت وكان الصوم والتعب قد بلغا منا جميعاً، فأوينا إلى مضاجعنا، فلما قمنا إلى إفطارنا، وأضيئت القناديل (بالكهرباء) ورأيت ظلال الشبك على الجدران وطالعتني المشربية من ناحية البيت، رأيتني أحيا في هذا الغموض الهادئ بقلب جديد نابض مؤمل في الحياة، مستبشر راض عنها غير يائس منها. وتمنيت لكل مصري أن يقضي في الماضي يوماً من كل أسبوع حتى يجدد حياته، وحتى يتاح لنا بذلك أن نجدد

<<  <  ج:
ص:  >  >>