الحر، فان خرج المقال قيماً ممتلئاً حرارة وقوة ربحت ربح المحسن في عمله - وليس لي كبير أمل في ذلك - وإن خرج المقال بارداً أكون قد أحسنت إلى الناس فرفهت عليهم، وانتقمت من الحر، وأعنتهم عليه؛ وأية فرصة للكاتب خير من هذه؟ يَحسن إذا أحسن، ويحسن إذا أساء؛ وللإنصاف لابد أن أعلن أني لست مبتكراً لهذا المعنى، إنما سرقته من نادرة لها اتصال بالحر، فقد أنشَدَ بعضهم بيتاً من الشعر، فقال سامعه: إن هذا البيت لو طرح في نار المتنبي لأطفأها، ويريد ببيت المتنبي قوله:
ففي فؤادِ المحب نارُ جَوىً ... أحرُّ نار الجحيم أبرَدُها
فكذلك أدرت أن أثأر لنفسي وللناس من حر هذا العام بكتابة مقالة تطفئه، وأخشى ما أخشاه أن تخرج فاترة، لا بالحارّة فتعجب، ولا بالباردة فتطفئ.
أول ما خطر لي في الحر أني الآن لابس ثوباً خفيفاً أبيض، واسعاً فضفاضا، مكشوف الرأس، عاري القدمين، جالس في حديقة، أشجار عن يميني، وأشجار عن يساري، وحوض زهر أمامي، وقد رشت الأرض من حولي، وبجانبي إناء مما يحفظ فيه الماء مثلوجاً، لا أدري ما اسمه بالعربية، وأخشى أن أقول (ترمس) فينقدني علماء اللغة؛ وكل شيء حولي يرطب الجو ويلطفه ويعدّله، وأنا مع هذا كله برم بالحر، ضيق الصدر، مغيظ محنق، أتلمس أقل سبب، لأعلن الغضب - وعلى البعد مني أصوات ترتفع بالنداء، هذه تحمل قفصاً مملوءاً بالفراخ، وهذا يجر عربة ملئت بأصناف الخضر، وهذا ثالث يحمل على رأسه سفطاً كبيراً قد ملئ بالتين أو العنب، وهو سائر طول نهاره في هذا القيظ ينادي، لا يعبأ بشمس ولا حر، ولا يضجر كما أضجر، ولا يألم كما آلم، ولا يفكر في الحر كما أفكر - أليس في الأرض عدل؟ أليس الشقاء قد أكسبه مناعة وقوة؟
أو ليست الرفاهية والمدنية والنعيم قد حرمتني الجلد والاحتمال؟
إنه ليسعد بما أشقى به، إنه ليسعد بشربة ماء من كوز من حنفية، ويسعد بالارتماء في ظل بيت في الشارع بعد أن أعياه التعب وأضناه السير، ويسعد بقريش يكسبه ليشتري به خبزاً جافاً يأكله فينعم به - إن كانت السعادة في اللذة والطمأنينة وهدوء البال فمما لاشك فيه أن هناك مجالاً للتفكير العميق (أينا أسعد) وتباً للعيش الناعم، والمدنية المعقدة، والرفاهية المترفة، التي أرهفت حواسنا وإحساساتنا، وأفقدنا الصبر واحتمال المكاره، وجعلتنا نفر من