نعيم إلى نعيم أدق منه نظن فيه السعادة، وما السعادة إلا في العيش البسيط والمران على الجلد، واحتمال ألوان الحياة وصنوف التعب، وأقلها الحر والبرد، إن تحتمل الحر فلا حر، وان تحتمل البرد فلا برد، وان تعتدْ بساطة العيش تكره نفاق المدنية، وان السعادة لخيرُ ما يحقق مذهب (آينشتين) في النسبية، فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي، وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافاً كبيراً باختلاف النفوس، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها، بل إن صلح الترمومتر أن يكون مقياساً لحرارة الجو، فلا يصلح ان يكون مقياساً لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص، ولذلك ترى من يموت من الحر، ومن يموت من الضحك على الحر - ومن الغريب أن يتوجه كل الناس بكل مجهودهم للتخلص من الحر بالاصطياف وسكنى الشواطئ والمراوح والمرطبات، ولا يبذلون أي جهد في الناحية الأخرى وهي الناحية النفسية بترويضها وتمرينها على الاحتمال، وتعويدها الصلابة، وهذا في نظري ليس أقل شأناً ولا أصغر قيمة من العلاج الأول.
وخطر لي أن علماء الجريمة يذكرون أن هناك أنواعاً من الأجرام تكثر في الصيف كالأجرام الجنسي، وأنواعاً تكثر في الشتاء كأجرام السلب والنهب، فقلت لعل ذلك أيضاً في الأدب، فالأدباء يهيج بعضهم على بعض صيفاً أكثر مما يهيجون شتاء، ويهيجون في القاهرة أكثر مما يهيجون في الاسكندرية، إن شئت مصداق ذلك فانظر ما كان بين من يسمونهم أدباء الشيوخ وأدباء الشباب، وانظر ما كان بين أدباء الشيوخ بعضهم وبعض، وأدباء الشباب بعضهم وبعض، أليس هذا كله فعل الحر؟
أو ليس من كان في الإسكندرية على شاطئ البحر كان يعجب من فعل الحر في أدباء القاهرة؟ - ولئن كان الحر يؤاخَذ على ما جنى من تعريض العلاقات بين بعض الأدباء لخطر، فانه يشكر على أنه استطاع أن يستخرج من الأدباء قطعاً فنية بديعة أكملت أبواب الأدب، فان القدماء قد عدوا من أبوابه باب الهجاء كما عدوا باب المديح - كما أنه يشكر إذ لم يسلط ناره الحامية على الأدباء طويلاً فقد حوَّل، عدسته إلى غيرهم ليتنازعوا فنجا