وليس معيار الصداقة عند أبي فراس وعند أحرار الناس، أن يغدق الصديق على صديقه عطاياه، أو يمطره إطراء عندما يراه ولكن هو الذي يصون الغيب، ويصفو على البعد والقرب، والأصدقاء بهذا المعنى أعزاء قلة؛ ومن ينبئك عن حقيقة الصحاب غير أبي فراس وقد خبرهم:
أعيا على أخ وثقت بوده ... وأمنت في الحالات عقبى غدره
وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد ... حتى أنست بخيره وبشره
لا أشتري بعد التجارب صاحباً ... إلا وددت بأنني لم أشره
ويجيء طوراً ضره في نفعه ... جهلاً وطوراً نفعه في ضره
وأحب إخواني إلي أبرهم ... لصديقه في سره أو جهره
وإنه ليعرف الصداقة والعداوة تعريفاً جديداً استمده من تجاربه، كما يعرف (القريب) و (الغريب):
أشد عدو بك الذي لا تحارب ... وخير خليلك الذي لا تناسب
لقد زدت بالأيام والناس خبرة ... وجربت حتى هذبتني التجارب
فأقصاهم أقصاهم من إساءتي ... وأقربهم مما كرهت الأقارب
ولا أنس دار ليس فيها مؤانس ... ولا قرب أهل ليس فيهم مقارب
وتبعاً لهؤلاء الحساد الكلاب، يتلفتون ليتأكدوا أن أبا فراس غاب، ثم يسلقونه بألسنة حداد؛ ولكنه يعتبر هذا شرفاً له؛ فإنما يحسد ذو النعمة:
ومضطغن لم يحمل السر قلبه ... تلقت ثم اغتابني وهو هائب
تردى رداء الظل لما لقيته ... كما يتردى بالغبار العناكب
ومن شرفي ألا يزال يعيبني ... حسود على الأمر الذي هو عائب
رمتني عيون الناس حتى أظن - ها ستحسدني في الحاسدين الكواكب
ولست أرى إلا عدواً محارباً ... وآخر خير منه عندي المحارب
فهم يطفئون المجد والله واقد ... وهم ينقصون الفضل والله راهب
ويرجون إدراك العلى بنفوسهم ... ولم يعلموا أن المعالي مواهب
وقد كان حرصه على غيظ الحساد مشجعاً له على تجلده في الأسر: