كانت الدعوة إلى الجهاد عامة يشعر بها الناس كافة من عرب وبربر، ومن أهل الحضر وأهل الجبال والبادية، وكانت الحرب في كل ناحية قائمة، ولكن كانت تنقص الدعوة والقيادة المنظمة التي تجمع الشمل وتنظم الجهود، وتحرك المشاعر، وتدفع هذه القوى الروحية نحو الغاية الكبرى.
ولقد شاءت العناية الإلهية أن تختار هذا القائد من جبهة وهران على الحدود المراكشية، ففي سنة ١٨٣٢ قامت سرية من المجاهدين عقد لواؤها للسيد عبد القادر بن زيان، بحركة كشفية حول أرباض المدينة، وفي موضع يقال له خنق النطاح، التقت السرية بفصائل العدو، واشتبكت معها في معركة تعرضية، وفي اليوم التالي أدركتها حشود المجاهدين، فدخلت القتال متراصة زاحفة فانتصرت انتصاراً باهراً، وفر العدو منهزماً متراجعاً إلى مدينة وهران.
وفي وسط المعركة ظهرت مخايل النجابة والبطولة والقوة والفتوة على الشاب عبد القادر بن السيد محي الدين الذي ما انفك مع والده يحرض المسلمين على الجهاد ويبوئ المقاتلين مقاعد للقتال. كان في الخامسة والعشرين من عمره، وقد عرف الناس فيه الحزم والعزم والعقل السليم والصبر في القتال، فجاءت المعركة فإذا بالشجاعة وقوة البأس تظهران عليه، وهو يخترق الصفوف ويباشر القتال بيديه لنصرة دين الله. وبينما هو يخوض وسط المعمعة تحامل عليه فارس من فرسان فرنسا برمحه فإذا بالطعنة تمر تحت إبطه الأيسر، فشد عليه عبد القادر بعزمه وقوته وهوى بسيفه على الفارس، فإذا بالسيف يقطع كتف الفارس نصفين، فكانت آية من آيات الله تناقلها الناس وسرى ذكرها بينهم. . وتلقى جواده ثماني طعنات ثم أصيب بالرصاص تحته فنزل وترجل واستمر يقاتل في مواجهة العدو وهو على قدميه ثابتاً في مواقعه حتى جاء النصر من عند الله، وتقهقر العدو منهزماً لا يلوى على شيء، وبات المسلمون ليلتهم بين التهليل والتكبير.
هذه بداية القائد الشاب بطل الاستقلال الجزائري وصاحب المواقف الخالدة بين سنتي ١٨٣٢ و١٨٤٧، الذي تمثل في عبقريته عراك أمة وكفاح شعب يقاتل في سبيل مثله العليا والذي أمضى ستة عشر عاماً في الحروب لم يدع فيها القتال والتصادم والكر والفر دفاعاً عن حومة الدين وعن حرية الوطن الشهيد.