ظهرت فيها صفاته وميزاته للقيادة والزعامة وضرب للناس مثلاً بتمسكه بالمبادئ والأهداف التي قام من أجلها، فأسبغ عليها عملاً متواصلاً لا يحيد عنه ولا يرجع، وبرزت نفسه القوية التي لا ترهبها الأهوال والنكبات ولا تغيرها الانتصارات المتتابعة ولا تنقص من حماسها النكبات والهزائم.
ستة عشر عاماً من المعارك المتواصلة لا تتخللها فترات قصيرة من السلم والراحة أفردها للتنظيم والإنشاء والدعوة إلى الله والعمل لبناء دولة ناشئة ألقيت أعباؤها عليه بأكملها، إذ واجه مشاكل السياسة مع مصاعب الحروب، وعالج الهزائم والدسائس، بنفس عالية فيها قبس من أخلاق السلف الصالح وفيها تلك النواحي القوية التي أفرغها الإسلام على قواده وزعمائه من قوة أمام الأخطار وصلابة في الحق وتمسك بالعروة الوثقى، مع تواضع وصبر على المكاره وحوادث الزمن.
كان هذا في وقت عصيب واجهت فيه الجزائر أكبر محنة في تاريخها يوم دعيت وحدها للدفاع عن أراضيها، ويوم ضعفت النفوس وتفرقت القوى، وبين عناصر متشاحنة وقبائل متنافرة وهنا ظهرت شخصية عبد القادر كمنشئ دولة، وقائد جيش، وزعيم أمة.
إن عظمة عبد القادر لا تظهر في انتصاراته وحدها وإنما في تغلبه على متاعبه وفي شجاعته وسط الهزائم والدعوة إلى الانشقاق والخيانة وفي مواجهة دعاية الويل والهزيمة، وزمرة المنافقين والمطففين ومن لازمهم، هنا تعلو حيوية عبد القادر على الحوادث حينما نراه مجاهداً لا تهمد عزيمته وسط الأخطار وأمام مكائد العدو والبحر مغلق أمامه والعالم الإسلامي يغط في نومه، فلا يخفف عنه إلا ذكر الله والدعوة إليه وإيمانه بأن إرادة الشعب الجزائري قد تمثلت في إرادته وأن الله قد اختاره لعمل كبير هو إنقاذ هذه الأمة وقيادتها إلى الجهاد في سبيل الله.
تقلب صفحات تاريخه وتسمع أقوال الخصم عنه وتنصت لنظمه وشعره وتقرأ رسائله فتلمس رجلاً قد أوتي حظاً من الإيمان والثقة بالله مما جعله فوق المستوى العادي للرجال. كان ممن اختاره المولى جل وعلا لعمل خالد فقد كان يعلم بأن أمامه دولة قوية قد أفرغت في القتال كل قوتها وصممت على فتح بلاده واستعانت بما أخرجه الفن والعلم في الحروب وقد خرجت من تجارب حروب ومعارك، ومع ذلك وقف وقفته وكان يشعر بأن أعداءه في