للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولاح الصبح ليعنّي الساهرتين صبحاً فاتراً تبينتُ فيه الخجل كأنه يقول: (لم أطلع لك)، فانسللتُ من البيت، وذهبت أمشي في دنيا هي الكآبة المضيئة، سِخرت الأقدار منها بإظهارها في هذا الضوء مظهرَ وجه العجوز المتصابية في زينة لا تزيدها إلا قبحاً!

ومضيت على وجهي لا غاية لي، أضرب في كل جهة كأنما أريد أن أهرب من نفسي! وما خطر لي قط أني في يوم جديد، بل كنت عند نفسي لا أزال في أمس، وتغير عندي الزمان والمكان؛ فأحدهما ساعة موت لا تترك ما فيها، والآخر قبر ميّتة لا يرد ما فيه.

آه من الوقت الذي ينتهي فيه الموجود ليعذبنا بالتذكر أِنه كان موجوداً!

قال المسكين: ثم أعادتني قدماي إلى البيت لأرى طفلتي - وما كنت رأيتها - ولقد كانت ولادتها أولَ الحياة لها، وأول الحياة لي أيضاً، إذ لولاها لانتحرت غيرَ شكً.

يا ويلتا! لم تلتق عيني بعين الطفلة حتى انفجرت تبكي، أتبكين لي يا ابنتي أم عليّ؟

أهذا بكاؤك أيتها المسكينة، أم هو صوت قلبك اليتيم؟

أصوتكِ أنتِ، أم هي روح أمكِ تصرخ ترثى لي وتتوجع لفرط ما قاسيت!

يا ابنتي، إنما أنت الحقيقة الصغيرة التي خرجتْ لي من كل تلك الخيالات الشعرية الجميلة - خيالات الأيام السعيدة التي مرّت! يُخلَق المواليد من اللحم والدم، وأراكِ أنتِ يا مسكينة، خلقتِ من اللحم والدم والدموع!

بقَّية حياةٍ ماتت! فهل معنى ذلك إلا أنكِ بقية موتٍ يحيا؟

مسكينة، مسكينة، لو أن نواميس العالم متغيرة لشيء لتغير من أجل بؤسك فردّت لك الأم، ولكنها لم تتغير، وما بكاؤنا وآلامنا وتعاستنا إلا تراث الحياة في أجسامنا الأرضية؛ كل ذلك طبيعة، ولكن بقعة أنظف من بقعة، وأراكِ يا بنتي كالبيت الذي هُدِم أوَل ما بنى يملؤه ترابه!

لن تتغير النواميس، فلن تجدي عطف الأم، ولكن لن يتغير قلبي أيضاً، فلن تحرمي عطف الأب.

وإذا صبر الناس على الحياة فمن أجلكِ يا مسكينة! من أجل ضعفك وانقطاعك سأعاني الصبر لك، وأعاني الصبر لي، وأعاني الصبر من أمك، سأصبر على الصبر نفسه!

يا ابنتي، يا ابنتي، لماذا وضعتك الأقدار من هذه الحياة في الناحية التي ليس فيها إلا قبر

<<  <  ج:
ص:  >  >>