حلقي فأختنق بها، ثم لا يُنفّس عني إلا الدمع، كأن أعضائي اختلّت مما ضغطني من الحزن فأنا أتنفس برئتّي وعينّي.
بموتها شعرت بها، ولعله من أجله ذلك لا يشعر الإنسان بلذة الحب كاملةً إلا في آلام الحب وحدها، وكانت في حياتها تضع من روحها في سروري، وهذا هو سرّ المرأة المحبوبة، يجد مُحبُّها في كل سرور لمحات روحانية، وكذلك فعلت بعد موتها، فجعلت روحها في أحزاني؛ ولولا أن روحها في أحزاني لقتلتْني المصيبة.
وكنت أدلف وراء النعش وقد بطل في نفسي الشعور بالدنيا، وكان الناس يمشون حولي بما فيهم من الحياة، وكانوا ذاهبين إلى المقبرة على أنهم سائرون كما يذهبون إلى كل مكان، أما أنا فكنت أمشي بما فيّ من الحب منكسراً منخذلاً متضعضعاً، لأني وحدي سائر وراء مالاُ يلحق.
وثقل الناس على قلبي، ورجع كل أمرهم عندي إلي العيب والنقيصة، إذ كان لي عقل طارئ من الحالة التي أنا فيها ليس مثُله لأحدٍ منهم، وكنت وحدي المصاب يبينهم، فكنت وحدي بينهم العاقل.
أنا أمشي لأنتهى إلى آخر مصيبتي، وهم يمشون لينتهوا إلى آخر الطريق؛ وشتّانَ ما نحن وشتان!
ولما رأيت قبرها ابتدرت عيناي تنظران بالدموع لا بالنظر، ورأيت التراب كأنه غيوم ملوَّنة بألوان السحب السوداء تتهيأ في سمائها تحت الظلام لتخفي كوكباً من الكواكب؛ وظهر لي القبر كأنه فم الأرض يخاطب الإنسان بحزم صارم، يخاطب الفقير والغني، والضعيف والقوي، والملوك والصعاليك:(إن كل قوة تُنزع هنا).
قال المسكين: وكما يجد الإنسان في أيام المطر رائحة النسيم المبتلّ بالماء كنت أستروح في رجعتي إلى الدار رائحة نسيم مبتلّ بالدموع، وحضرت المأتم وعزّاني الناس فكنت فيهم كالمأسور بينهم لا أتمنى إلا أن يَدَعوني فأنجوَ على وجهي، ولا أرى إلا أنهم يجرّعونني الوجودَ غُصصاً كما تجرعت الفقدَ غصة غُصة، إلا أن تفرقوا مع سواد الليل، فانكفأت إلى الدار فإذا كل شيء قد تغير ولمسه الموت لمسة، وإذا الدار نفسها كالعين المقروحة من آثار البكاء، مآثَمّ إلا ليطالعني بأن مسراتي قد ماتت!