للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ويا ليتها لم تكن عرفت هاني، ويا ليت أسعد كان السابق إليها، إذن لوجدت السعادة كاملة، لا ينقصها شيء، ويا ليت الحب، هذا الطفل الأعمى، لم يكن رماها بهاني، بالغلام القذر الذي جيء به من أزقة بيروت، فتعلقت به، كما يتعلق المرء بكأس الخمر، تهري أمعاءه، وتشتاقها نفسه، بل هو القدر، القدر الذي جعل جسدها منعماً في هذه الجنة، وقلبها معذباً في ذلك (الإسطبل)، وكتب عليها أن تعيش مع أسعد، ويكون حبها لهاني.

ولم يكن أسعد وأخته، يدعانها لحظة كيلا ينبثق جرح قلبها، وكانا يطرفانها أبداً بأجمل الطرف، وأرق الأحاديث، ويجددان لها كل ساعة مسرة، ولكنها كانت كلما خلت بنفسها، أو لمحت الصخرة من بعيد، ذكرت ليالي الحب عند الصخرة، وعادت تفكر في هاني: أي أرض تحمله، وأي سماء تظلله، وهل هو حي لا يزال، أم قد طواه الثرى؟ ويا ليتها تستيقن موته، فتستريح إلى اليأس، وتتعزى بالعجز. . .

وكان أسعد يوماً من أيام النقاهة إلى جانبها، وقد أضجعها على أريكة في الحديقة، تضحى بشمس الصباح تظللها بواسق الصنوبر، وتحف بها فواتن الأزهار، وقعد على كرسي صغير، ينظر إليها كما ينظر الوثني إلى صنمه، يطل قلبه من عينيه حباً، ويقف لسانه هيبة، وتنقبض يده إكباراً فلا يمسّه إن مسّه إلا بأطراف الأنامل، وكان يتأمل شفتيها، حتى إذا تحركت طالبته شيئاً جاءها به قبل أن يتم اللفظ، ويلحظ عينيها حتى إذا مالت إلى شيء حملها إليه قبل أن يرتد الطرف، وطغت عليها عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فأمّرت أصابعها على شعره فأحسّ رجفة الكهرباء العلوية، التي لا تمشي في سلك ولكن تسير في الأعصاب، ولا تضيء البيوت ولكن تنير القلوب، ولا تحرك الآلات ولكن تحرك الكون، الكهرباء التي اسمه الحبّ، وتجرأ فقال الكلمة التي كان يرددها في نفسه على عدد الدقائق والثواني ولا يجرؤ أن يقولها، قال لها:

- هل تقبلين بي يا ليلَ زوجاً؟

وسكت يرقب الكلمة التي تعرّفه مصيره في هذه الدنيا، إما إلى جنة الحب، أو إلى نار الهجران، وسكتت ليلى لحظة ولكنها لم تذكر ماضياً ولم تفكر في مقبل، وإنما نظرت إلى الحاضر وحده، واستجابت لندائه، كما تفعل كل امرأة في الدنيا وقالت:

- نعم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>