ومرت سنوات طويلة، ناعمة هادئة، كأنها مياه البحر في خليج جونيه، واستقر الجرح في قلب ليلى، حتى ظنته قد التأم، ومنعته عناية أسعد ومحبته أن ينفجر أو يتسع، واتصلت المودة بينها وبين أسعد، والمودة إن اتصلت بين الرجل والمرأة لا تلبث أن تصير حباً، وكاد يجيء الحب، لولا أن عصف البحر في الخليج فجأة، وماج واضطرب، حين دخل الخادم يعلن قدوم هاني.
انفجر الجرح، وعاش الماضي، ونظرت ليلى إلى حاضرها الذي كانت تأنس به وتطمئن إليه، فوجدته يتهدم ويكاد يضمحل حين داهمه الماضي بسيله الدفاع، فتمسكت بأسعد الذي هو رمز هذا الحاضر، كما يتمسك الغريق ببقايا الزورق وهتفت به أن يمنعه من الدخول. فأبى أسعد، وحسب لغروره وجهله بطباع المرأة، إن الحب قد مات ودفن، لا يدري أنه دفن في القلب، ودفين القلب يحيا إذا ناداه الماضي، وأذن له بالدخول، وقام لاستقباله، وبقيت ليلى جالسة، ساكنة الجوارح وقلبها في زلزال، معرضة عنه وكل شعرة في جسمها تنظر إليه وتحس به، قد شحب لونها، واصفر وجهها حتى لم يبق فيه قطرة واحدة من الدم، ورفعت إليه عينيها أخيراً، فوجدته قد عاد بأبهى حلة، وأكمل زينة، تبدو عليه مظاهر الغنى، وعلائم الثروة، وتخاطبت العينان في لحظة، فألقتا ألف سؤال وسمعتا ألف جواب، وروتا قصصاً وساقتا أخباراً، ولم يدر حديثهما أحد، ثم أغضت، وأخذها مثل الدوار.
وسمعت وهي غيبتها أطرافاً من الحديث، فعلمت أن هاني قد عاد من أمريكا غنياً، وإنه اشترى قصر أبيها، وصار مالكه.
وكان لكل كلمة يقولها، وحرف ينطق به، معنى في نفسها، لا يدركه الزوج ولا ينتبه له، لقد كان يفهم معاني الكلمات في المعجم وهي تفهم معانيها في القلب المحب، وفي الماضي المبعوث، وتحس أن الحديث بينه وبينها؛ وإن كان الذي يرد عليه زوجها، ثم غشي عليها فلم تعد تشعر بشيء.
وذهب هاني إلى القصر، وقعد على كرسي سيدي الشيخ رحمه الله وراح ينظر حوله: لقد خرج من القصر أجيراً ذليلاً، وعاد إليه سيداً مالكاً، وصار علام تحت يده، يجرّعه إن شاء المرّ من كأس الانتقام ويجزيه بالسيئة قدمها له عشراً، وحافه الحظ، وسعى إليه المال،