- مرحى! مرحى! يا إسحاق، احرص هذه المرة فأنت البطل.
استعد إسحاق، وسدد سهمه الأخير إلى الهدف في عناية وإحكام فطار في الهواء ثم نفذ إلى رأس العمود فأتى على بقية الأسلاك وهوى الطائر إلى الأرض وافترش مساحة صغيرة في الساحة، فدوى الهتاف في جميع الجوانب:(الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) فرد إسحاق تحية الجماهير بكلتا يديه ثم تقدم إلى مقصورة الخليفة وانحنى أمامه، فهنأه الخليفة وقدم له القدح الذهبي جائزة الفوز في ذلك العام، فانحنى الشاب ثانية، ثم استأذن الخليفة وانصرف شاكراً، ثم التف حول جمع غفير من أصحابه والمعجبين به وخرجوا إلى المدينة وهم ينشدون الأناشيد الوطنية الجميلة ابتهاجاً بهذا النصر العظيم.
أصبح الشيخ إدريس طاعناً في السن، وقد وهت قوته ونالت منه السنون، فضعفت حركته، وتحللت أوصاله وصارت العزلة محببة إليه، فابتنى لنفسه منزلاً صغيراً أنيقاً في ظاهر المدينة حيث الهدوء التام وأحاطه بحديقة جميلة زاهرة، وعاش فيه عيشة وادعة هانئة.
ولقد كان حريصاً على أن يشهد المهرجان في هذا العام ليقوي روح ابنه المعنوية. ولكن قعد به عن ذلك ضعف الشيخوخة ولقد سرى إليه نبأ انتصار إسحاق بأسرع من البرق. ووفد عليه كثير من الناس يهنئونه قبل أن يعود ابنه. وقد تحامل على نفسه ومشى إلى باب الحديقة ليستقبل ويودع المهنئين ولينتظر ابنه فجاء في رهط من إخوانه تتقدمهم هتافات وجلبة. فلما بلغوا سور الحديقة ترجلوا عن جيادهم وتقدم إسحاق إلى أبيه فقبل يديه كلتيهما. ثم عانقه عناقاً حاراً وطبع الوالد على جبهة ابنه قبلة تفيض عطفاً وحناناً. وتقدم رفقاء إسحاق فقبلوا يد الشيخ وقدموا له التهنئة، ثم تبعوه إلى موائد الشاي والمرطبات فنالوا منها ما طاب لهم. وقبل أن ينصرفوا قام إدريس وشكر للحاضرين صادق تهنئتهم، ودعاهم لحفلة عشاء ساهرة، اعتاد أن يقيمها كلما فاز ابنه في مساء يوم المهرجان. فقبل الحضور الدعوة شاكرين وخرج إسحاق يودعهم إلى الباب، ثم رجع والمؤذن ينادي لصلاة الظهر فأسرع مع والده إلى المسجد، ولما رجعا إلى البيت انفرد الرجل بابنه وجلس إلى جانبه وقال له:
- إنك تعلم يا بني أني قد بلغت من الكبر عتياً، وأنني هامة اليوم أو الغد، فقد انطفأت شعلة القوة في نفسي، وسرى الضعف في أعضائي، وخطوت إلى النهاية خطوات فسيحة