للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويترك تلك الألحان الصاخبة التي يملأ بها أغانيه. ولسنا ممن يجاري بعض المتشائمين من نقدتنا الموسيقيين في قولهم بوجوب القضاء على الموسيقى النورية؛ فإن لديهم خواص عجيبة ترجع إلى مقدرتهم على التشبه والاقتباس.

هذا وقد استطاع النور في إسبانيا وإنكلترا وبسارابيا واليوكرين أن ينشئوا ثقافة موسيقية خاصة. وأغاني النور الأوكرانيين ورقصاتهم ذائعة معروفة في كل مكان. أما النور المجريون فلا يعرضون علينا فنهم قط، حتى ليقال أن ليس لهم فن. ولكنهم في الواقع ينشدون أغانيهم فيما بينهم، ويرقصون رقصاتهم، ويتلون أمثالهم وقصصهم. وهم يعيشون في عزلة مطبقة حتى أن البحث عن خواصهم الجنسية والفنية ليصطدم بأكبر الصعاب. ولديهم وسيلة أخرى للدفاع هي لغتهم التي هي مزيج من العناصر السلافية والرومانية وغيرها. وهم يضمرون البغض والريبة للأجانب لما فرض عليهم من الحياة الوضيعة التي تكاد تنحط إلى المستوى الحيواني، وشأنهم في ذلك شأن القبائل الهندية التي غزاها الأوربيون. والنوري يقدر ما بينه وبين الغير من الفروق، ويعرف أن الغير لا يعتبره إنساناً بالمعنى الصحيح؛ ولا يجد سوى الموسيقى للتعبير عن نفسه ومقدرته؛ فإذا سنحت له فرصة العزف، فانه يملأ موسيقاه وألحانه بكل ما يشعر به من الشهوات وألوان البغض والغضب، والحنان، والثورات، والاحتقار، والفرح، واليأس؛ ويبقى النوري في ذلك المجتمع المتمدن الرأسمالي، النصراني، الذي يرغمه على الاستقرار والاعتراف بالملكية، والتنصير، والخضوع للقوانين بين الغابات والسهول الوحشة - يبقى دائماً وثنياً، جامع العاطفة، مخلوق الغريزة، ويلجأ إلى الموسيقى لبث مقاومته وشكواه؛ ولو نبذ النوري أساطيره وسحره، ونسى لغته، وترك قصصه وأناشيده ورقصه، فانه يبقى مع ذلك نورياً بالموسيقى.

ولن تمضي أعوام أخرى حتى يغمر النور ذلك البحر الإنساني الذي يحيط بهم؛ ولن تمضي أجيال قليلة حتى يغدو النور كالزراع، وينسون كل خوصاهم وتقاليدهم؛ ولن يبقى من الفن النوري سوى قليل من الأغاني والقصص، ذلك الفن الذي هو أعجب الفنون الشعبية وأكثرها طرافة؛ وعندئذ لن نجد سوى بعض الفنانين الذين ينحدرون من أصل نوري، يتجولون هنا وهنالك في بعض المدن؛ بقية شعب كبير كان يجوب السهول والغابات،

<<  <  ج:
ص:  >  >>