الغريب الشراب فروى ظمأه واستطاع بعدئذ أن يهمس هذه الكلمات:
- أعرني سمعك أيها الشيخ الكريم. . . وارحم غربتي وضعفي، فليس لي في هذا البلد مساعد ولا معين. . . فكن مساعدي ومعيني. . . منذ قليل كنت في طريق المدينة فقابلني جماعة من شباب المسلمين، وكنت وحيداً، فأخذوا يسخرون مني ويستهزئون بي، فلما لم أرد عليهم قذفوني بسيل من الشتائم مقذع، فقطع الشيخ حديثه بقوله:
- ترى من كان هؤلاء الأشقياء؟ فإن الإسلام يعلمنا كيف نحافظ على شعور الناس، ويحثنا أن نعاملهم بالحسنى، ولا نعرض لهم بأذى. فقال الرجل:
- هذا ما حدث يا سيدي، ولا أدري له تعليلاً. . . فلما استنكرت فعلهم، ورجوتهم أن يكفوا عن هذا السباب استشاطوا غضباً، وازدادوا في إيلامي، وبلغ ببعضهم أنه أخرج مدية وهم أن يطعنني بها، فدفعني حب البقاء أن أدفع الأذى عن نفسي، فقذفت بسهمي في ثورة غضبي وشدة هياجي فطاش وأصاب من أحدهم مقتلاً، وها أنتذا قد علمت أنني لم أبيت لأحد منهم سوءاً، ولم أقصد أحداً بضرر، ولم يكن في حسابي أن الشهم سيصيب منهم مقتلاً. . . وقد لذت بالفرار لأنجو بنفسي، ولأنقذ حياتي من خطأ لم أتعمده، فرمت بي المقادير إليك، ولعل من سعد طالعي أني وفقت لمن ينصر المظلوم ويأخذ بيد الضعيف
ظن الشيخ أن الذي سمعه من الرجل هو الواقع، فتحركت في نفسه عوامل الشفقة، وثارت في قلبه نوازع الرحمة، ولم يخطر له ببال أن الدم الذي سفكه ذلك الخائن إنما هو دم ابنه البرئ، فأخذ يلاطف الرجل ويتبسط معه في الحديث، ليذهب ما ألم بقلبه من فزع ورعب، وما تملكه من اضطراب وخوف، وكان مما قاله له:
- إنك وإن لم تكن مسلماً؛ فقد أوصانا نبينا بأن نعامل مخالفينا في الدين بالحسنى، وأن نرعى الأخوة في الإنسانية حق رعايتها، فكن على يقين أنك بلغت مأمناً، وأنه بعون الله لا تستطيع يد أن تمتد إليك بسوء واعلم أنك الآن في حماية قوية، فقد عاهدتك عهداً غير منكوث، أني لن أسلمك أبداً ولو حملت في سبيل ذلك السلاح. . . ولكنه رأى في وجه الرجل أمارات الشك، وأن به ميلاً إلى عدم التصديق فقال له في رنة التأكيد:
- كن واثقاً بي فالمسلم إذا عاهد وفّى، وإذا أؤتمن أدى، وإذا قال صدق، فانحنى العغريب حتى بلغ رِجْل الشيخ فقبل أطراف أصابعها، فجذبها الشيخ بقوة وقال له: