للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

- إنني يا بني لم أفعل شيئاً أستحق عليه هذا منك، ولم أزد على أني أجرت من استجار بي، وأي مسلم يقعد عن ذلك؟ ثم التفت إلى خادمه وقال له:

- اصحبه إلى حجرة النوم التي أعدت للأضياف، ووفر له وسائل الراحة، فإنه شديد الحاجة إليها، ثم ابتسم للرجل وقال له:

- في رعاية الله وحفظه، رافقتك السلامة، وصحبك الهدوء والاطمئنان.

أخذ المدعوون يفدون إلى بيت إدريس زرافات ووحداناً تعلو وجوههم نضرة السرور، وترتسم على شفاههم بسمة الفرح، وكانت الأنوار تتلآلآ ساطعة في أبهاء البيت وطرقات الحديقة وامتلأ البيت، واكتظت الحديقة بالحاضرين، وجلسوا جماعات جماعات، يتناول حديثهم شتى الأمور في الأدب والتطورات السياسية، والمعارك التي يخوض جيش المسلمين غمارها لإخضاع الثائرين المتمردين، والملح الضاحكة، والطرف المستملحة، والكل ينتظر عودة إسحاق بفارغ الصبر. وكان الشيخ إدريس أشد الحاضرين قلقاً، وأكثرهم لهفة؛ فقد بدأ يتوجس خيفة من تأخر ابنه الذي لم يسبق له مثيل؛ فإنه لم يتأخر في المدينة إلى مثل هذا الوقت من الليل، وخشي أن يكون قد أصابه مكروه فإنه يعلم أن عليه في هذه الليلة أن يستقبل المدعوين في منزله من علية الناس وأشرافهم. فلم يستطع الرجل الثبات في مجلسه، فكان يكثر من الخروج والقيام والقعود، والذهاب إلى الباب والعودة منه ينتظر عودة وحيده.

وحانت صلاة العشاء، فقام أحد المدعوين وأذن لها، وبعد أن فرغوا من صلاتها عادوا إلى أماكنهم، وقبل أن يتشعب بهم الحديث فاجأهم صراخ وصياح خارج المنزل لم يلبث أن صار بينهم مصدره، وكان خادم إسحاق الذي رافقه إلى منزل الشيخ عبد الكريم هو مبعث البكاء والصياح فدخل عليهم وقال لسيده إدريس في تأثر بالغ وهو يبكي، ولا يكاد يتبين السامع شيئاً من كلامه لاختناق صوته، وإلحافه في البكاء والنشيج:

- ألهمك الله الصبر ياي سيدي. . .؛ فقد مات وحيدك. . . وسندك إسحاق. . .

لم يكد الخادم يتم عبارته حتى ارتسم الهلع على وجوه الحاضرين، واستبد بهم الحزن، وفارقهم الوقار، وتخلت عنهم الشجاعة، فعلا نشيجهم وتصعدت زفراتهم واستسلموا لحزن عميق

<<  <  ج:
ص:  >  >>