أما الشيخ إدريس فقد كاد يصعق في مكانه؛ لأن الخبر قد نال منه أشد منال، ووقع على قلبه وقوع الصاعقة، وأخيراً بعد جهد جهيد استطاع أن يستند على خادمين وخرج إلى الحديقة، يتبعه الأضياف ليروا جثة إسحاق التي وصلت منذ لحظات.
تقدم إدريس إلى ابنه المسجى، وبيد مرتعشة رفع الغطاء الأبيض، فرأى وجه ابنه، ذلك الوجه الذي كان منذ قليل يزخر بماء الشباب، رآه أصفر شاحباً، قد ذوى جماله، وغاضت ملامحه وغارت عيناه. وقد كانتا تشعان بالفرح والتحفز والسرور، فانطفأ بريقهما، وخبا ضياؤهما، وانطبقت جفونهما.
رد الوالد الغطاء على وجه ابنه، والحزن يفتت كبده، ويذيب فؤاده، ولكنه تحامل على نفسه وتمالك أعصابه وردد في ثقة واطمئنان قول الله عز وجل (إنا لله وإنا إليه راجعون). (كل نفس ذائقة الموت). (فصبر جميل والله المستهان). ثم التفت إلى القوم الذين جعلوا يتقدمون لتعزيته وقال لهم: ماذا يملك الإنسان غير أن يستسلم للقدر المحتوم، والقضاء النافذ. إن قلبي يعتلج بالأسى والحزن لفراق ولدي الوحيد، ولكنها إرادة الله، الذي لا راد لما قضاه.
تراءى العالم للشيخ إدريس شديد الظلام، وأخذ الألم يحز في نفسه، ولكنه صبر للبلاء، وصمد للقضاء. وانفرد بالخادم الذي كان يرافق إسحاق وقال له:
- قصّ عليّ يا بني ما جرى لكما كما وقع، ولا تستر عني شيئاً من الحقيقة، وقل من ذا الذي فعل هذا بسيدك إسحاق؟ فقال الخادم:
- أنني قد تأخرت عن سيدي إسحاق قليلاً، لأنه أسرع بجواده، ورأيته من بعيد يتحدث إلى رجل غريب، لكني لم أسمع ما دار بينهما، إلا أنني رأيت سيدي بعد قليل يحاول النزول عن جواده، وقبل أن يتمكن من ذلك، قذفه الغريب بسهم قاتل، فسقط على الأرض مضرجاً بدمائه، واختفى القاتل بعد أن أدركه، فانتفض الشيخ انتفاضة شديدة كأنما لدغه عقرب، وقال والدمع ينهمر من عينيه: هذا ابتلاء من الله وعلينا أن لا نسخط على قضاء قضاه.
وأخذ الحاضرون يعزون الشيخ إدريس، ويسألون له الصبر ثم ينصرفون إلى بيوتهم والهم يعتلج في قلوبهم والأسى يحز في نفوسهم. ثم اجتمع الأقارب والأصدقاء من الرجال والنساء حول القتيل يبكون شبابه الغض، وفتوته الناضجة، وخرج كثير من أصدقائه بفتشون في طرقات المدينة وأحراشها عن القاتل الأثيم!