لأنه رئيس حكومة - كلا بل لأنه أول رجل بعد أن ذهب مصطفى كامل - وقف وحده في عرين الأسد البريطاني ليسمع الدنيا كلها أن هذا الأسد البريطاني قد اعتدى عليه وبغى وطغى وظلم وتجبر، وفعل الأفاعيل الخسيسة التي أراد بها استعباد مصر والسودان. انه الرجل المسئول الوحيد الذي قام في مجلس دولي يطعن بريطانيا العظمى! طعنا متداركا غير راحم ولا مشفق ولا هياب، وهو يعلم انه يطعن بهذا الطعن دولا كثيرة من أعضاء هذا المجلس، لقد كان محمود فهمي النقراشي رجل مصر، لأنه كان وطنينا يتكلم بلسان الجروح التي مزقت جسد أمته، لا بلسان السياسي المحتال الذي يريد أن يرضى هذا ويتجنب غضب ذاك. وهذا وحده هو السر الأعظم الذي جعل قضية مصر والسودان اعظم قضية عرضت على مجلس الأمن وأخطرها وهذا وحده وهو التخاذل في الصفوف التي جمعتها بريطانيا، وظنت إنها سوف تنصرها في باطلها نصرا مبينا ترجع بعده مصر والسودان خاشعة خاضعة تحت ظلال الخذلان الذي أملت بريطانيا أننا سوف نمنى به.
لقد ضرب النقراشي مثلا خالدا في تاريخ مصر الحديث، فدل بذلك على أنه ركن يركن إليه في ملمات الأحداث. فقد مرت على مصر والسودان حقبة كان الذي يقول فيها بمثل الذي قاله النقراشي في مجلس الأمن يعد رجلا مخبولا خياليا تسحر منه الصحف والمجلات. وتزدريه جماهير من المخدوعين، ويتخذ هدفا لكل دعابة تجري بها السنة الهازلين من إخلاص النوادي والقهوات، أن هذا الرجل جديد بان يرفع اسمه منذ اليوم إلى حيث لا تنال مكانه أسماء الدجالين والمخادعين والمنافقين الذين ظهروا في تاريخ السياسة المصرية منذ سنة ١٩١٩ إلى يوم الناس هذا. فحسبة فخرا ومكانة أن يكون هو الذي استطاع أن يجمع إرادته وعزمه وحزمه، فلم يصرفه خوف أو إغراء عن تحقيق كلمة مصر والسودان الخالدة، وعن إعلان هذه الكلمة في أرجاء الدنيا، وهي:(لا مفاوضة إلا بعد الجلاء).
ويقابل هذا الرجل الصادق رجال آخرون من صنائع بريطانيا - كانوا من صنائعها القدماء منذ تحركت مصر والسودان في سنة ١٩١٩ تطالب الدولة الباغية باستقلالها وتريق دماءها وتبذل مهجها، ويأتي أحدهم فيكون سيفا مسلولا على أعناق إخوانه المصريين يتعسف بهم عسف الجبار المارد، وإن كان هو في نفسه ليس بجباراً ولا مارد إلا كما كان أبو حية