الذي كان يناله الرجل فيتبجح به ويخيل إليه انه صار عقلا وحده، قد حل محله عقل كثير لا قبل لأحد بدفعه بعد اليوم. وخير له أن يعلم أن الذرة التي تتوهج اليوم بالإخلاص لمصر والسودان، خير من كل الدر القديم الذي زيفته بريطانيا وملأت قلبه نعمة وجاها وسلطانا، وخير له أن يعلم أن دم أي صعلوك مصري - سوداني مخلص لبلاده، قد صار اكرم على مصر والسودان من دماء السادة الذين سادوا بالخيانة والنفاق والخداع، وخير له أن يعلم في أول ذلك كله وأخره أن احتقار مصر والسودان، وازدراء هذا الشعب النبيل ووصمه بأنه لم يبلغ بعد المرتبة التي تخوله أن يتوبوا مكانه في العزة والكرامة - لن ينفع بعد اليوم صاحبه والمتحدث به والعامل على تثبيته في أذهان من يحدثهم وخير له أن يعلم انه لا يزيد على أن يكون فردا من أفراد الشعب لا أكثر.
ليس من همي مرة أخرى أن أتناول قول صدقي بالنقد أو التفنيد، ولكن كل همي أن أدل ناسا من خلق الله الذي نبتت لحومهم، وجرت دماءهم وامتلأت بيوتهم خيرا من ماء النيل الذي يجمع مصر والسودان، على أن شعب مصر والسودان قد حزم أمره على أن يستأصل شافة الماضي كله ويقطع دابر المنافقين المختالين بغير سلطان اتاهم، وانه قد أجمع عزمه على أن يحطم سلاسل الاستعباد كلها، وأنه لن يقف دون غايته لرهبة أو رغبة، وانه عرف أن الساسة قد خدعوه زمنا طويلا، فأيما سياسي من القدماء ممن كان من صنائع بريطانيا أو من المخدوعين بشرف بريطانيا تسول له نفسه بعد اليوم أن يظن انه أهدى من النقراشي واعظم واقدر، وأنه بالغ ما لم يبلغه النقراشي بالمفاوضة والمساومة على حقوق مصر والسودان فمصيره أن ينال من باس هذه الأمة الناهضة المتدفقة العارمة شرا كثيرا كان أحوط له أن يلوذ منه بملاذ كريم، هو أن يستظل بظل الأمة التي ولدته وأنشأته وكرمته بالانتساب إليها فإذا أبى أحدهم إلا أن يطلب لنفسه مجدا بدعوة بلاده إلى المفاوضة أو خيانة بلاده بقبول عون بريطانيا له حتى يبلغ الوزارة كما بلغها بعضهم من قبل على أسنة الحراب البريطانيا، فانه سيعلم يومئذ أن الشعب المصري والسوداني اشد منه ومن بريطانيا باسا وقوة ومصابرة على الجلاد، وسيعلم انه قد قدر فخاب فامتحن امتحانا شديدا كانت له عنه مندوحة.