وأدخلني، فرأيت النصب لم يبدل منه شئيا؟ إنما يبدل المنصب من يكون أقل منه فيكثر به، لا من يكون أكبر من مناصب الأرض كلها، وقديماً قيل: السنبلة المملوءة تنحني، والفارغة ترفع رأسها.
ودخلت عليه في مكتبه وهو رئيس وزارة، فما وجدت إلا أستاذنا فارس الخوري، الأستاذ العالم الأديب الحاضر الجواب، الصائد النكتة، وكنت أظن أني سأجد دولة الرئيس فارس بك الخوري الذي لا يكلم إلا بعريضة، ولا يخاطب إلا بالبروتوكول!
وفارس الخوري واحد من المشيخة الأجلاء الذين تعتز بهم دمشق، والذين أن فاخرت إنكلترا بتشرشل، وعمله عمل الشباب وهو في سن الشيوخة، فإن كل واحد منهم تشرشل لنا، لا نفخر بأنه بقى شابا في عمر الشيوخ، بل بما جمع إلى ذلك من العلم والفضل، والثقافة والعرفان، كالشيخ عبد المحسن الأسطواني علامة الشام الذي لا يزال موظفاً له همة الشباب، وهو (حفظه الله) فوق التسعين، والشيخ كرد علي أبي النهضة الأدبية في الشام، الذي يعمل اليوم دائباً على المطالعة والبحث وألتاليف، كما كان يعمل منذ خمسين سنة، عندما كان محورا في (المؤيد)، وفي (المقتطف) من قبله، وكان يصدر مجلة (المقتبس) من بعده، فكانت دعامة ضخمة في صرح نهضتنا الأدبية والعلمية، والشيخ الذي لا يزال شاباً يمشي أميال، وهو يقر أنه في الثمانين، والذي لا يدري أذهنه أفتى أم روحه أم جسمه، الذي يكتب اليوم وقد كان يكتب من نصف قرن: المغربي، والشيخ القوي الأمين، الذي كان في أول سنة من هذه القرن الهجري قاضيا في دوما ولا يزال عالما نشيطا كيوم كان في دوما: سليمان الجواخدار وهذا الشيخ (الخوري) الذي شهدت بعبقريته الدنيا، وأكبرته الأجيال على اختلاف ألوانها وألسنتها وبلدانها، ورأت فيه (شخصية) ضخمة، لا توزن بها (شخصيات) هؤلاء الذي ألقت إليهم قوة دولهم مقاليد الأرض، وحكمتهم رقاب البشر، واعترفوا بأنه مع عبء الثمانين حمل رياسة مجلس الأمن فكان خير رئيس له وأقواه. هذا، وليس وراءه أسطول منه جاءت هيبته، ولا قنبلة ذرية قامت عليها سطوته، ما وراءه إلا أمة صغيرة كبرتها عبقريته، ودولة ضعيفة قوتها (شخصيته)، حتى كان صوتها أعلى الأصوات، وكلامها أبلغ الكلام، وخطبته عنها هي نقطة التحول في مجرى الرأي في مجلس الأمن، كما قال الأستاذ الصاوي في (أخبار اليوم).