ولكن هذه المعاهدات وما تحمله من أيمان ووعود وما أعقبها من تصريحات رسمية صادرة من الحكومة الفرنسية وممثليها، ثم من الإمبراطور نابليون الثالث نفسه عند زيارته للأقطار الجزائرية كل هذا لم يمنع الاستعمار أن يبسط يده على كل شئ في هذه البقعة العزيزة علينا، وكان من جملة ذلك أن مدت فرنسا يدها إلى الدين الإسلامي وإلى الأوقاف الإسلامية، تراث القرون الماضية ومفخرة المسلمين: لأنها أوجدت ووقفت وبقيت الأزمان واحترمها ملوك المسلمين وأمراؤهم لما يعلمون من إنها أرصدت للصرف على المؤسسات الإسلامية، وهي هذه المدارس والمساجد الجامعة، التي تحرص على تثقيف أبناء الأمة وتثبيت قواعد الدين، وتلقين الناس تعاليم الشريعة الغراء.
فما الذي حدث في الجزائر؟
ذكر الدكتور أنريكو انسابانو الإيطالي في كتابه الإسلام وسياسة الحلفاء (ص ٧٠) ما يأتي بالنص:
ارتبطت الحكومات الأوربية في بعض الجهات باحترام أملاك الأوقاف وما أرصد على الزوايا والطرق الصوفية وهذا شرط خطير يحسن بإيطاليا أن تفكر طويلا قبل أن تأخذ به لا ينتج عن احترامه من نتائج وخيمة، سبق لفرنسا أن تحملتها في الجزائر، لأنها حينما أعطت هذه المواثيق والعهود لم تكن لديها فكرة واضحة تماماً عن أهمية أوقاف المسلمين وأثرها في إبقاء قوتهم الدينية فكان من نتيجة هذه السياسة التي فرضتها على نفسها فاضطرت أن تناقض ما أخذت به نفسها وتعهدت للمسلمين باحترامه.
وقد هاجم المستعمرون نظام الأوقاف في شمال إفريقيا عامة، قالوا إنه نظام رجعي يمنع تداول الثروات، والقصد من ذلك حرمان المسلمين من أملاكهم، ونسبوا إليه أنه نوع من الاستغلال لعمل الإنسان لأنه يفرض الجبر وذلك حينما رأوا الطلبة والمريدين يتلقون العلم في الزوايا والمدارس الإسلامية، ويعلمون في زراعة الأراضي الملحقة بالمعاهد، وكانوا يطلقون على هذا العمل التعاوني الإنساني اسم المعونة، ولما ازدهرت أملاك الأوقاف وزاد خيرها، استكثروا هذا الخير عليها وحاربوها باسم الحرية والعدالة والمساواة، وهم يعلمون أنهم يقصدون أولا وآخراً هدم قواعد الدين وإفقار أهله، وهذا ما وصلوا إليه حينما شردوا الطلبة ونزعوا أملاك الأوقاف.