قدر لي أن أنشأ نشأة ريفية صميمة، فقد تفتحت عيناي على تلك الجبال التي تغزل بها سليمان في نشيده الخالد:(شعرك كقطيع الماعز الرابض على جبال جلعاد) هذه الجبال جبال جلعاد أو جبال عجلون - كما تدعى اليوم - هي مجلى هواي ومرتع صباي. . . . كنت أفارقها - مرغماً - العام والعامين - طالباً أو مسترزقاً - وأعود إليها مستروحاً مستجما - لاغتسل من أدران المدينة وأتطهر من أقذار المدينة، ولقد كنت أشعر شعور الحاج أقبل على الأماكن المقدسة، فمن مشاعر غريبة مبهمة وأحاسيس غامضة من الحنين والشوق والحب والشعر والدين، إلى عواطف متضاربة من الفرح والحزن، والعبوس والابتسام.
كنت أقف إزاء هاتيك الجبال الأزلية، التي شهدت فجر الخليفة وستشهد غروبها، خاشعاً مبهوتاً، وأهبط إلى تلك الأودية العميقة الرهيبة فأحس بحاجة ملحة إلى السجود والتعبد، كما كنت أشعر بإشراق في روحي وفرح وحشي في قلبي لا يعرفه إلا ابن الطبيعة، الذي ألف ولولة الرياح وهزيم الرعد وانفجار الصبح ولمع البروق!. . . ولطالما أحسست وأنا أسير بين تلك الجبال الحبيبة التي عرفت طفولتي وصباي وشهدت ملاعبي وهواي بالحاجة إلى نظم الشعر أو كتابة النثر فكانت تعجزني الأداة وغلبة الإحساس الطاغي على التفكير والتركيز، فتسيل عواطفي من عيني، وتستحيل الفكرة في رأسي إلى نوع من الشرور والذهول، ولست أدري أكانت دموعي دموع الفرح بعد طول الفراق، أم دموع الأسى على هاتيك الأيام والليالي التي بددتها فذهبت إلى غير رجعة؟
ظل ذلك شأني إلى أن قرأت هذه الآيات من خطاب (نعيمه) إلى أبناء بلدته (بسكنتا) إثر عودته من أمريكا:
(يا أبناء بسكنتا يا لحمي ويا دمي!
منذ عشرين عاماً أدرت وجهي إلى البحر وظهري إلى صنين واليوم صنين أمامي والبحر ورائي. وأنا بين الاثنين كأني في عالم جديد وكأني ولدت ولادة ثانية.
ما أنا بالنبي يضع العجائب، غير أني منذ عدت إليكم والعجائب تكتنفني، فكأنني في عالم مسحور. أنظر إلى الجبال التي كنت أتسلقها فإذا بها تتسلقني! وإلى الأودية التي كنت أهبط