سمعتها: ففي الشطر الجنوبي من وادي النيل المعروف عندنا باسم (السودان)، والمعروف عند بريطانيا وأشياعها باسم السودان المصري الإنجليزي، ألف الناس إذا تخاصموا أن يلجئوا إلى جماعة من أصحاب الرأي يسمونهم (مجلس الأجاويد)، فيأتي المتخاصمون فيذكرون أسباب خصامهم، وتنظر الجماعة في أمر هذا الخصام، ثم ترى رأيها فتقول لأحد المتخاصمين: أكرمنا وانزل عن كذا، وتقول للآخر: وأنت فأكرمنا أيضاً وانزل عن كذا. ولا تزال تأخذ من هذا ومن ذاك، فإن قبل المتخاصمان أن ينزل كل منهما عن شيء وينزل خصمه عن مثله، فذاك، وإلا رفعت الجماعة يدها عن الأمر كله وقالت للمتخاصمين: لقد نفضت يدي، فاذهبا فاصنعا ما تشاءان!
فمجلس (الأجاويد) هذا أشبه شيء بمجلس (الأمن)، لولا أن الأول طابق اسمه مسماه، وأن الآخر كذب اسمه على مسماه، فمن الحسن كل الحسن أن يغير هذا المجلس اسمه ويبقى هو، لأنه مكان يتاح للدول فيه أن يعرف بعضها بعضاً على حقيقته بغير تدليس ولا تجمل ولا مواربة. وهذا في نفسه غاية مطلوبة ومنفعة لا مراء في أنها خير ينبغي الحرص على إدراكه وتحصيله، بل نقول أكبر من ذلك: إن تسريح وفود الدول المشتركة في هذا المجلس شر ينبغي اتقاؤه، لأنه يحول بين الدول وبين إدراك هذه الغاية المطلوبة والمنفعة العظيمة.
وندع مجلس (الأجاويد) وما وحل فيه من عجز وضعف واحتيال على تفادي الحزم، ومن فراره عن وجه الحق فيما يعرض عليه من الخصومة، فإنه لم يخلق لمثل ما نطالبه به حين نذكر حقوق مصر والسودان أو سواهما من أمم الأرض. ندعه لننظر في خاصة أمرنا نحن دون أن نعبأ شيئاً بما فعل هذا المجلس، أو بما سوف يفعله.
وملخص تاريخ القضية المصرية السودانية، كما يعرفه كل أحد، هو أن مصر والسودان كانت فيما قبل سبتمبر سنة ١٨٨٢ دولة واحدة لها حدود معروفة معترف بها في المحافل الدولية كلها لا ينازعها فيه منازع. وفي سبتمبر سنة ١٨٨٢ اتخذت بريطانيا ما كان من أمر الثورة العرابية التي قام رجالها للمطالبة بحقوق الشعب الدستورية، ذريعة للتدخل في شئون مصر الداخلية، وكانت نيتها مبيتة على العدوان على استقلال مصر والسودان، وإخضاع هذه الدولة للسيطرة البريطانية الاستعمارية التي كان يومئذ في عنفوان شدتها. فتم لبريطانيا ما أرادت، وانتهكت حرمة الشرائع الدولية، وادعت أنها أرادت تثبيت عرش