خديوي مصر في ذلك الوقت محمد توفيق. ولما رأت أن الدول الأوربية المستعمرة قد بدأت تناوئها، زعمت أنها لن تلبث إلا قليلا حتى تجلو عن أرض مصر والسودان مرة في أقرب وقت مستطاع، حددته أحياناً وتجاهلت تحديده أحياناً أخرى. وظلت تماطل وتتعسف وتؤوّل، وتكذب وتفتري على مصر والسودان أخس افتراء، وهي في خلال ذلك تهدم كيان هذه الدولة المصرية هدماً تاماً بحجة الإصلاح حيناً، وبحجة المحافظة على (حقوق) الأجانب في مصر وعلى مصالحهم.
فلما جاءت الحرب العالمية الأولى، انتهزت بريطانيا هذه الفرصة وأعلنت الحماية على مصر والسودان دون أن تعبأ شيئاً بحقوق شعب مصر والسودان، وهي مطمئنة إلى سكوت الدول الحلفاء على فعلها في هذه الساعة الحاسمة من تاريخ العالم. ثم انتهت الحرب وهب الشعب المصري السوداني يطالب بريطانيا باستقلاله، ولكن بريطانيا لم تلبث أن وجدت منفذاً لتفريق كلمة هذا الشعب، فلوحت للزعماء بأنها تريد إنصاف مصر والسودان، وظلت تستدرجهم حتى قبلوا مبدأ مفاوضة بريطانيا في حقوق مصر الطبيعية، فأقبل هؤلاء الزعماء على مفاوضة بريطانيا منذ ذلك الوقت، فكانت زلة وخيمة العواقب في تاريخ مصر والسودان، ولو لم يكن لها من الشر إلا أنها أفضت إلى تعليق مسألة السودان في كل المفاوضات إلى سنة ١٩٣٦، لكان ذلك حسبها من البلاء الذي ليس بعده بلاء.
ولما حدثت مفاوضات سنة ١٩٣٦ الخبيثة، وانتهت بمعاهدة الاحتلال التي فرضت على مصر فرضاً تحت ظل الاستبداد والتهديد والتخويف، وقعت زلة أخرى أكبر من زلة المفاوضات نفسها، وهي ذكر الورقة الباطلة المعروفة باسم اتفاقية سنة ١٨٩٩، فكان ذكرها كأنه اعتراف بشرعيتها، واجتماع كل هذه الأخطاء واحتشادها منذ سنة ١٩٢١ إلى هذا اليوم، هو الذي مكّن لبريطانيا أن تقف في مجلس الأمن لتتكلم بالكلام الذي لا معنى له إلا أنه تزوير للحقائق، ولكنه تزوير اعتمد على هذه الأخطاء نفسها. فلولاها لما كان لبريطانيا كلام يقبله عقل عاقل، ولشق عليها أن تدلس في الحقيقة البينة، وهي أنها دولة معتدية حكمها كحكم سائر الدول المعتدية في الدنيا. ومع ذلك، فإن شيئاً من هذا لم ينفع بريطانيا، فالدول قد علمت ولا ريب أن بريطانيا معتدية بعد أن كشف النقراشي القناع عن الفضائح التي كانت مكتومة عن الناس وعن الدول، وبعد أن أبان فارس الخوري عن