كان منشأ هذا النوع من الأدب تلك اللذة التي يبعثها في نفوسنا ويفيضها على حواسنا تقليدنا لطبيعة الإنسان وعمله.
فتمثيل الطبيعة الناطقة والصامتة والأحجار والألوان والألحان إنما يلذنا منه ذلك التقليد الذي أجاده الفنان وأحكمه. قال أرسطو طاليس في كتاب (الشعر): (إن الإنسان مقلد بطبعه، وأشد ما يطربه ويعجبه من الفنون إنما هو التقليد). وليس من شك في أن التقليد في الرواية أكمل صنعاً وأقوى ظهوراً منه في غيرها من سائر الفنون. لأن التقليد فيها لا يقف عند الأشكال الخارجية للإنسان كالنحت والتصوير، وإنما يتغلغل في باطنه، فيصور نوازع نفسه وخواطر فكره ودواعي عمله. أضف إلى ذلك تلك الحاجة الملحة التي تدفع الإنسان إلى السبوح في أجواء الخيال فراراً من وحدة العيش وضيق الحياة وثقل الحقيقة وجد الإنسان تلك اللذة وقضاء هذه الحاجة في التمثيل المسرحي، فسرَّه أن يخرج من نفسه، ويقلد أبناء جنسه، ممثلاً لعينه ذلك المثل الأعلى الذي طالما رسمه في خياله، وتمنى أن يعيش على مثاله. ظهر ذلك أولاً عند الإغريق في أعياد باخوس إله الخمر، إذ تقدم (إبيجين) من أهل (سسيون فمثل ذلك الآلة على المسرح، وقطع مابين الأناشيد بحكاية بعض الحوادث الحماسية، فاستغل (يسبيس) ذلك الابتكار، وجاء (أسخيلوس أبو المأساة، فأضاف إلى الممثل الأول ممثلاً آخر، فخلق الحوار ثم اخترع الوجه الكاذب، والثوب الضافي والحذاء العالي واستعمل الألفاظ الجزلة، والتراكيب الفخمة، واختصر الأناشيد التي سميت بعد ذلك (خورس)، فضعف شأنها في الموضوع.
على هذا النحو نشأت المأساة، وهي أحد فرعي الرواية كما ستعلم بعد. أما فرعها الآخر وهو الملهاة فمنشؤه ذلك التهريج الذي كان يستبيحه الشعب الإغريقي لنفسه في مواكب باخوس وهو يجول جولان الفرح في قرى (أتيكا). ومن ذلك يعلم أن الرواية منذ خلقها الإغريق تنقسم إلى قسمين مستقلين: هما المأساة والملهاة أو التراجيدية والكوميدية كما سيجيئك تفصيله بعد قليل.
أما تأثير الرواية أو المسرح فلا جدال في قوته وخطره، فالحكاية مهما قويت في التعبير وبالغت في التأثير لا تبلغ شأو الرواية في ذلك، إذ القصص الحكائي لا يخاطب إلا المخيلة، وهي تختلف في الناس ضعفًا وقوة، فلا يكون تأثرها إلا بمقدار، أما القصص