يقيهم الله صروفه فهو يدعو لصديقه وقريبه أبي العشائر، ألا يمسه الدهر بسوء في أية حال:
لعاً يا أخي لامسك الدهر إنه ... هو الدهر في حاليه بؤس وأنعم
ويدعو كذلك لقريبه أبي زهير بأن يوقى بلايا الدهر:
يا ابن نصروقيت صرف الليالي ... وصروف الردى وكر الخطوب
دهر البارودي
وكما نعى أبو فراس على دهره، ينعى البارودي على دهره؛ لأن البواعث متشابهة، بل هي واحدة: فقد مات والد البارودي وهو في السابعة من عمره فلما شبَّ تلفت حواليه ليدفئ قلبه بحنان أبيه فلم يجده، فهاج على دهره الذي غال أباه وما كان قد تملاّه.
وكان البارودي سليل المماليك ومعتزاً بنسبه كأبي فراس، وتربى في المدرسة الحربية، وطابعها السيادة والعزة يومئذ، ولذا لم يكن يدخلها غير أبناء الطبقات الراقية، فقوت هذه التربية الحربية نزعة الكرامة والاعتزاز في نفس البارودي.
وشعر البارودي أنه فوق أقرانه بعبقريته الحربية: إذ هو أولى من أبلى في حرب إقريطش، وفي روسيا، وسطع نجمه في سماء القيادة الظافرة.
وأحس كذلك أنه عبقري في السياسة: فقد كان أثير الخديو وأمين سرِّه ورسوله في المفاوضات، وتقلب في مناصب عالية، فكان مدير الشرقية، ثم محافظ العاصمة.
وكذلك في عهد توفيق عين مدير الأوقاف، ثم ناظر الحربية مع الأوقاف عندما ثار الجند على ناظر الحربية عثمان رفقي.
ولأمر ما وشى رياض باشا رئيس الوزارة إلى الخديو توفيق بأن البارودي يحابي الشعب ويؤثر مصالحه على مصلحة الخديو، فاستقال.
ولما أسندت الوزارة إلى شريف - لم يقبل البارودي الاشتراك فيها حتى ألّحَّ عليه الخديو توفيق واستسمحه، ثم استقال شريف، فرأس البارودي الوزارة وفي هذا الحين قامت الثورة العرابية، فكان من أمرها أن نفى البارودي مع المنفيين.
وكذلك أحس البارودي أنه عبقري في الشعر: إذ كان شعراء عصره أمثال الساعاتي ومحمود صفوت يتكسبون بشعرهم، وكانوا يقلدون الشعراء المتأخرين في تكلف المحسنات