الشعر أغبره كبير الرأس أشبه شيء برأس الديبة، وهو يناديه بصوت مرتفع: لا تخف! أنا قادم لنجدتك).
وأقبل الذئب نحو الحاكم مسرعاً، فأمسكه من وسطه وقذف به إلى الحائط، ثم وقف أمامه يحميه بجسمه الضخم من ضربات الثائرين، وما عتم أن أشهر بيمناه سكيناً لم يعلم أحد من أين أتى به، وصار يواجه بها الأعداء ويرد ضرباتهم ويطعنهم طعنات نجلا يحسن تصويبها، فتعدد الصرعى وكثر المصابون وأخيراً خف الحرس لنجدة الحاكم، وبعد أن انتهى الشغب وساد الهدوء وعادت السكينة وخرج الحاكم سالماً، سقط الذئب مجندلا على الأرض مثخناً بجراحه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فحمله الحرس إلى مخدع الحاكم وأرقدوه على فراس وثير كان أول فراش اضطجع عليه طيلة عمره البائس. . تمدد الذئب هناك وطفق يدير بصره حوله بلهفة ظاهرة كمن يفتقد شيئاً عزيزاً. وظل مستلقياً على الفراش وهو بين الحياة والموت، حتى مثل الحاكم أمامه، فقال بصوت خافت يتضوع أسى، وهو ينظر إلى ملامح الرجل الذي أنقذ حياته بيده: الطفلة! الطفلة. . . وفطن الحاكم إلى قصده، ثم فكر ملياً فأدرك السبب الذي حمل الذئب على أن يذود عنه بنفسه ويحميه بجسمه. أجل! إنها القبلة التي دفعته إلى هذا حتماً! وهرول الحاكم إلى الغرفة التي حبس فيها ابنته، وقد نسى أن يفتحها بعد انتهاء العاصفة، فألقى الطفلة تصرخ وتستغيث، فطوقها بذراعيه وضمها إلى صدره، وذهب بها إلى الغرفة التي تمدد فيها الذئب وهو يعاني آلام النزع الأخير وكان الذئب يحدق في الفضاء، ويرسل نظراته الشاردة ذات اليمين وذات الشمال؛ إنه لا يزال لديه متسع من الوقت لكي يرى فيه ذلك المخلوق الوحيد الذي حنا عليه ورق له، لم يزل له من الوقت ما يكفيه لان يقول لذلك المخلوق المحبوب: أخرى. أجل! قبلة أخرى!) رفع الأب ابنته بين ذراعيه ودنا بها من الذئب وسمع الحاضرون صوت قبلة تردد صداها المنغوم في أرجاء الغرفة. قبلة ملائكية من شفتي طفلة، طبعتها على ذلك الوجه المغضوض الذي جارت عليه عوادي الدهر وصروف الحدثان ووسمته لعنة المصائب والأهوال بميسمها الذي لا يمحى. وعندما قدم القس، وأخذ يرتل صلواته أدعيته، وقد حمل بيديه الزيوت المقدسة، كان الحاكم والحراس قد جثوا على ركبهم، أما الجثة في خشوع، وقد غشى المكان صمت رهيب. وكانت الطفلة ترتل - بإيعاز من أبيها - بصوتها