- هو يفعل ذلك دائماً. . لقد حذرني الحاكم السابق منه وقال إنه شديد الخطر وقد أمضى معظم حياته في السجون، وله في هذا السجن ثلاثون عاماً) فشهقت الطفلة وقالت:
ثلاثون عاماً؟! أواه! إنه مسكين. . . يا له من مسكين!).
وما كاد الذئب يسمع كلمة (مسكين) حتى رفع بصره وعلق عينيه بوجه الطفلة دون أن يتوقف عن الحياكة. وأراد الحاكم أن يصرف ابنته عن هذا الموقف، ولكنها اندفعت فجأة مسرعة نحو الذئب وهي تهتف: إنني ذاهبة لأقبله) ثم أقدمت على ذلك في الحال، فاقتربت من الذئب وطبعت على وجهه قبلة بريئة دون اشمئزاز وخاطبته برقة: إليك هذه القبلة، ولا تكن مجرماً بعد اليوم!).
وارتاع الذئب من هول هذه المفاجأة الغريبة، وكاد يصعق، ولكنه استطاع أن يحبس صوته. فندت من حنجرته آهة تشبه الحشرجة أو هي شبيهة بجرس ذلك الصوت الذي يخرجه الأخرس عندما يحاول الكلام فلا يقدر عليه. وغادر الحاكم وابنته المكان وقبل أن يدركا الباب المؤدي إلى غرفة الحاكم، التفت المجرم إليهما وشيعهما بنظراته. ومرت الظهيرة وتلتها الأمسية فدلف الذئب إلى زاويته وكأنه وحش يعود إلى وجاره. وتقضت أيام وأعقبتها شهور، والسجن هادئ لا يوحي مظهره بشيء يسترعي النظر. وفي يوم
وفي يوم من أيام (يوليو) هاج البحر وماج، فاصطخبت أمواجه وكان يسمع لها دوي هائل وصفير مزعج يصم الآذان في داخل السجن، فهاج السجناء وشرعوا يحاكون العاصفة بصخبهم وضجيجهم، وتعالت أصواتهم تعلن التمرد والاستنكار، ثم حل وقت الغذاء فأضربوا عن تناول الطعام. . . وأخيراً انفجرت الثورة التي حيكت مؤامرتها في الخفاء، وارتفعت أصوات الثائرين في قاع السجن من كل جانب: فليسقط الرؤساء. . . فليسقط الحاكم. . .) وهب الحاكم مذعوراً ووثب من غرفته كالنمر الهصور، بعد أن أغلق الباب على ابنته لكيلا تلحق به فتتعرض لسوء، ثم اتجه إلى ساحة السجن ولكنه ما كاد يدخلها حتى اعترض طريقه وجهاً لوجه ثلاثمائة سجين، كانوا قد تسلحوا بملاعقهم الخشبية بعد أن سنوا أطرافها، فغدت حادة تبلغ من الأجسام ما تبلغه منها المدى والدبابيس.
فشهر الحاكم مسدسه في وجوههم وأطلق عياراته الستة على المتمردين، وبينما كانت الرصاصة السادسة والأخيرة تغادر فوهة المسدس، شاهد غولا حقيقياً مخيفاً، رجلا أشعث