على أن هذا التصرف كله لا يحجب عنك معالم أرسطو الواضحة من عبارات الترجمة الفرنسية كما نقلت إلى اللغة العربية، فيخرج منها القارئ في غير شك وهو يشعر أنه قد تابع أرسطو في تفكيره ومنهجه وتفصيل معناه في جميع ما توخاه.
ونلاحظ غير ما تقدم أن اسماً واحداً قد يترجم بلفظين، كترجمة (برسيا) بإيران في الصفحة الخامسة والعشرين، وترجمتها بفارس أو الفرس في مواضع أخرى من الكتاب، وهي الترجمة الصحيحة لما كان متداولاً على ألسنة الإغريق من تسمية الفرس الأقدمين.
وقد يسأل سائل: ما لنا وسياسة أرسطو اليوم وقد طرأ علينا في العصور المتتالية من حوادث الأمم وضروب الحكم وعبر التاريخ ما لم يكن يخطر لفلاسفة اليونان، ولا لفيلسوف في الزمن القديم، على بال!
وقد يقال في جواب ذلك أن الزمن - في الواقع - لم يغير كثيراً من جوهر الآراء التي أثبتها أرسطو في كلامه على طبائع الشعوب وما يلائمها من الحكام والدساتير، ولم يغير كثيراً من جوهر القواعد التي بنى عليها تخريجاته في التفرقة بين أنواع الحكومات أو وظائف السلطات أو أسباب الثورات، وأن قيمة الكتاب التاريخية لا يتطرق إليها الشك إذا جاز الشك في قيمته السياسية عند تطبيقه على الوضع الحديث.
ولكننا ندع هذا الجواب ونستغني عنه لأننا نستطيع أن نقول مقالا لا تكثر اللجاجة فيهن وذاك أننا هاهنا أمام ظاهرة عقلية يقل نظيرها في تواريخ بني الإنسان، وأن علماء اليوم، وعلماء الغد إلى آخر الزمان، لا يستكثرون شد الرحال إلى أقصى المعمور ليدرسوا طبيعة حشرة من هوام الأرض، ويستكنهوا حقيقة كائن حي من أحقر الكائنات، فلو مضى القياس على هذا لما كان كثيراً على إنسان أن ينطلق إلى المريخ ليرى عقل أرسطو يتحرك في دخيلة عمله ويسلك سبيله إلى أسرار الحقائق فيبلغ منها غاية ما ترتقي إليه عقول البشر جميعاً، وهو في زمانه لما يتلق معونة ما من أدوات البحث الحديثة، ولا يعتمد على ركن ما من أركان العلم الحديث.
وأي عقل هو عقل أرسطو هذا الذي نراه في دخيلة عمله وحركة تفكيره وبحثه؟ هو عقل لا يفاق عليه إن لم يكن هو أكبر العقول.