كثيف لمطاردة الذباب، وكم ذكرتني بشبيهاتها من المدافع التي كانت تنصب لمطاردة الطائرات زمن الحرب. .
ونظر رَبُّ الدار فإذا أحد الأطباق يظهر جانب منه من تحت الغطاء القماشي فتأفف ونظر في وجه امرأته نظرة حنق وسحب القماش فغطى الطبق؛ وسألته فيم هذا الغطاء؟ فنظر إليّ وكأنه ينظر إلى معتوه ثم قال، ألا ترى أن ذبابة واحدة كفيلة بأن تقتل من في المنزل جميعاً بل من في الحي كله إذا وقعت على الطعام؟ فقلت: إذا كان هذا مبلغ خوفك من الذباب في الليل وهذه المدافع من حولك فليلطف بك الله في النهار؟
وضحكت زوجته ضحكة عالية ثم نظرت إليه معاتبة وما تريد إلا أن تسري عنه وقالت: أتذكر الحرب؟ صور لنفسك إحدى طوائر الألمان المنقضة وقد هبطت من السماء على دارك فهذا هو شأنه تلقاء ذبابة مسكينة من الذباب.
وما أتمت كلامها حتى نظر إليها وراح يقلد لهجتها ونطقها مستهزئا وهو يقول: ذبابة مسكينة من الذباب! المسكين أنت! لقد كان من المخابئ عاصم من الطائرات وما الذي يعصمنا من ذبابتك المسكينة؟
وقلت له ما الذبابة بمسكينة ولا زوجتك بمسكينة، وإنما أنت المسكين فهذا عذاب ليس مثله عذاب؛ وضحكنا جميعاً وكشف الغطاء عن الطعام ليأكل، وقمنا نداعبه فوقفت عن يمينه وفي يدي إحدى المضختين وقامت زوجته عن يساره وفي يديها المضخة الأخرى، وكلما ابتلع لقمة حمد الله ونحن ندعوه إلى الطمأنينة فلن نسمح لذبابة أن تقرب من المائدة حتى يفرغ من طعامه. . .
وانصرفت، وفي نفسي أني لن أرى من هو أشد من ابن عمي وهماً؛ ولكن منظاري وقف بي في صباح اليوم التالي على منظر أنقله للقارئ في غير نقص أو زيادة:
انحنت عجوز أمام باب إحدى جرائدنا الكبرى وراحت تقيئ وفزع الناس بالضرورة وابتعدوا عنها واقترح بعضهم طلب الإسعاف؛ ومر شاب وجيه المظهر بادي الفتوة كثير الأناقة، وقد فرغت العجوز من قيئها فخيل إليه انه مس بحذائه هذا القيء بعد أن فطن إلى أنها كانت تقيئ فكأنما نزلت به صاعقة من السماء، ونظرتُ فإذا صفرة كصفرة الموت تمشي في محياه وإذ العرق يلتمع في جبينه ونظر إلى الناس لهفان كأنما يستنجدهم، ولبث