وهمسات الدوح البعيد تستدعيه ليعمل مع العاملين ونقيق الضفادع يملأ أذنيه فلا يكاد يترك له بقية عابرة من ليلة المنقضي. . ألمت بفتانا إغفاءة الفجر، وأدرك عند ما استيقظ - أن المدينة أخذت كعادتها تزدحم في ميدان الحياة العابرة، وأن لهذه الفنون - التي جذبته بسحرها الرائع وجلالها المكنون - أرباباً عبدوها وقدسوها فكانت متعة للناظرين، ولكن دقات الزمان ما فتئت تضرب على أوتار الحياة فتوهنها وما برحت تبدد أمامها آثار القوة والعظمة والطموح وهكذا تتجدد الإنسانية وتفنى العصور ويولد الكون من جديد. . .
وأخذا الإنسانية تضطرب في حياتها التي اعتادت منها أن تعيش وانقضت سحابة النهار كما انقضت بقية الأخوات، والشاطئ الحبيب يستدعيه ليجلس على مقعده الخشبي ليرقب الأشياء والناس ولكن جوانب النور أخذت تتراءى لديه من بعيد، وفقد الشاطئ بهجته ورواءه، والفتى ساهم الطرف، شارد اللب ونظر حوله فلا يرى إلا الوجوه التي أخذت تضحك منذ أن استقبلت الحياة وعرفت الوجود، فإذا بنشيدها ينقلب أسى وحديثها يصير همساً وضحكاتها المرتفعة تغدو عبوساً مطرقاً، والشمس تنحدر للمغيب وجوانب الحي تتهيأ لاستقبال الليل كما استقبلت أحاديث النهار، بيد أن القمر يبسط أشعته الفضية الزاهية على الربى والبطاح فيملأها حياة وجمالا وجلالا، والنجوم الخفرات تتداعى من فرط استحيائها وجيوش الظلام تكاد تولي هاربة. وحديث الأم يطرق الآذان من جديد فيصيح إليه إذ يقول: ومن قدر السماء يا بني أن تبسم الأمهات لأطفالهن وقد بسمت للوليد الجديد يوم ميلاده وابتسم له اليوم عند الشباب وفي الأفق البعيد تتبدى أنوار العدالة والحق فتنعكس صفحاتها المشرقة على جبين الحياة فتزيدها نوراً على نور، وتبعث الحضارة بما فيها من قوى روحية سامية، ذلك لأن الحياة هي في حقيقتها تلك اللحظات الروحية الرفيعة؛ والفنون وأنماط المعرفة تملك التعبير الصحيح عن خير ما في الإنسان من رقة ونبل وإحساس، وهل حياة المعرفة والفن إلا نوعاً من التضحية والقلق يدفع بصاحبه للبحث وراء المجهول. . .
وفي ثنايا الليل يظل صاحبنا باحثاً عن الحكمة، ناظراً في دنيا العلم، مطرقاً مستغرقاً؛ وهل عادت الروح من جديد تجاه الشرق لتجد عالم الهدوء والاطمئنان أم تبدت حياة الآلة كالحة في نظرة الفتى الذي أجهده طول السهاد؟! وأنغام الموسيقى تتهادى في ضوء القمر،