أتذكر يا طفلي الوحيد يوم ودعتني متجهاً صوب الشمال، أتذكر يوم خلفت قلبي الثاكل الآمل؟ فالقطار الذي تحرك بك ليقلك إلى وطنك الروحي الأصيل كان بداية عهد جديد في حياتي نحوك؛ ففي الصباح الباكر أصحو على موسيقى ذكراك الحبيبة وأتلمس أخبارك في كل آن، وأنا اليوم أحب الحياة لأنك وهبتها لي، وهل الحياة إلا في طفلي وهل طفلي إلا عند الحياة؟. . كان بكاء الطفولة فيك يؤلمني ويقض مضجعي، وكان مرح الطفولة فيك يملأ قلبي حباً بالحياة وتعلقاً بها، وأنا الناظرة إليك من أقصى الجنوب يتلفت قلبي إليك ليدرك حياتك بين اللدات والأتراب، فإذا رسائلك تحمل إلى فرحة الروح والحس والشعور فأذداد إيمانا بالحياة وتعلقاً بالوجود.
إذا ما دعا داعي الحي بأن فيه أحداً قد ذاق المصاب ذكرتك يا بني واتخذت المصاب مصابي والعلة علتي وأحاطت بي الهموم والأحزان، وإذا ما أذن مؤذن الحي بأفراح الشباب تهللت أساريري مرتجية لك مثل ما للداتك الكرام، وإذا ما عاد أترابك حاملين لأمهاتهم أفراح الشمال تلقيتهم فرحة لأني أجد فيهم ريح طفلي الكبير، ولكن دعني أعرف جوانب الحياة وجوانب الروح فيك، ودعني أتحسس ما تريده في الغد السعيد. . .
جلس إبراهيم على مقعده الخشبي تجاه الشاطئ يرقب الناس في صمت وسكون وإطراق، وأحاديث الأم تعاوده وتلح عليه وتملأ القلب فيه والشعور والإحساس؛ والناس من حوله فرحون مستبشرون يستقبلون الحياة في لذة ونشوة وسرور، والأمواج تقذف الشاطئ ثم ترتد عنه في حياء وخجل، والبساط الأخضر مورق على ضفاف الوادي متحدث في صمت وسكون، والفتى تتعاوده أحاديث الأم والقلب والروح. . .
جد الفتى خطاه المتثاقلة إلى الدار، وأخذت الرؤى والأشباح تستعيد صورتها السابقة من جديد؛ ولجأ إلى كتاب مسطور يتحدث إليه عن الشعر والعلم والفن ولكن جوانب نفسه تزحمه ولا تترك له بقية لنظرة في كتاب، فيهرب إلى فراشه عله يدفن رأسه فيه لينام ساعة من ليل، ولكن الرؤى والأشباح ما فتئت تطارده فينهض ليقرأ في صفحة الكون من جديد. . .
والظلام المطبق يكاد أن ينجلي شيئاً فشيئاً، والأصوات الخافتة التي تزحم أنفاس البشر أخذت تتأهب للمسير، والأشجار المورقة ترسل موسيقاها الخافتة في هدأة الليل البهيم،