(اوزابرس). ومن أمام الأرز الخالد، الرافع رأسه نحو السماء، الهازئ بالزمن، الضاحك من الإنسان وغروره، أجل من أمام الأرز مرت جيوش رعمسيس، وجحافل المقدوني، وأبطال بومبي، ومساعير معاوية، وقوات السلطان سليم، وعساكر إبراهيم باشا. . . مرت كلها من أمام الأرز مطأطئة الرؤوس خاشعة الأبصار، حكمت البلاد ودوخت الأمصار، عمرت ما عمرت وخربت ما خربت، ثم مضت لسبيلها:
كأن لك يكن بين الحجون إلى الصفا ... جليس ولم يسمر بمكة سامر!
وظل الأرز رافعاً رأسه نحو السماء يبتسم ابتسامته الأزلية!
وهذه صور التي كانت في ما مضى سيدة مدن فينيقيا، صور التي وقفت في وجه الاسكندر العظيم وأرغمته وجنوده على تحمل البرد والحر سبعة اشهر خارج أسوارها، نراها اليوم قرية صغيرة أقرب إلى الخراب منها إلى العمران (فسبحان من رد عامرها خراباً وجعل أنسها وحشة) وأدال منها إلى سواها!
وهذه مدينة البعل التي شهدت عظمة فينيقيا واليونان والرومان ومجد العرب والترك، ما تزال أعمدتها شاهدة على تفوق العقل البشري وجبروت الإنسان!
أي مدينة الشمس! لقد وقفت إزاء آثارك خاشعاً لدى روعة الفن، حالماً بأشياء غامضة لذيذة كالأماني، ناعمة كأنفاس الربيع!
ثم هذان الشيخان الأزليان اللذان كلل الثلج هامتيهما، واللذان كانا وما زالا رمزاً لعظمة لبنان وروعته وجلاله!
حرمون وصنين! من وقف أمامهما ولم يحس بقرارة نفسه بالهيبة والوقار؟ من شهدهما ولم يشعر بالخشوع والتأمل العميق؟!
وكل من أسعده الحظ بزيارة (بشرِّي) حيث الأرز الخالد، وحيث يرقد رقدته الأبدية فقيد الشعر والفن جبران خليل جبران، ومشى بضع خطوات إلى الجنوب أشرف على واد عميق رهيب، وهوى سحيقة تبعث الرعب والخشوع في أقسى القلوب وتذكر الإنسان بالموت والفناء.
هذا الوادي هو وادي (قاديشا) أو وادي القديسين، وقد دعي كذلك لأن النساك والمتعبدين في عصور المسيحية الأولى اتخذوا مغاوره معابد، وكهوفه صوامع يتعبدون فيها ويتهجدون